المشاكل العملية لشهادة اللفيف بين الفقه والقانون
المشاكل العملية لشهادة اللفيف بين الفقه والقانون
بقلم جواد بنامغار
عدل موثق بدائرة المحكمة الإبتدائية بسوق الأربعاء الغرب – المغرب
نتناول في هذا الموضوع المشاكل الناجمة عن شهادة اللفيف في المجال العملي كإنكار الشهود لشهادتهم، والرجوع عنها، أو الطعن فيها بالزور، وما يترتب عن ذلك من إدانة العدول أو الشهود على السواء وما يفضي إليه ذلك من آثار تتعلق بحقوق الناس نزعا أو عطاء…
نقصد بالفقه: الفقه المالكي في قواعده وضوابطه المتعلقة بالتوثيق، وخاصة شهادة اللفيف وما يتعلق بها من أحكام باعتباره هوواضع هذه الوسيلة الإثباتية، فهو المرجع فيما يتعلق بها من أحكام وقواعد.
ولا نعني بالقانون النصوص القانونية المتعلقة بهذا الموضوع فقط، ولكن العمل القضائي كذلك المطبق لهذه النصوص، والمنزل لها على الوقائع، بل هو المقصود أساسا لأنه هو الذي يعطي للنص القانوني فعاليته ويعمل على تحقيق مقاصده أو على العكس قد يجرده من ذلك.
ويأتي هذا العرض في إطار ما صارت تمثله “شهادة اللفيف” في وضعها الحالي من مشكل حقيقي يهدد مصداقية التوثيق، وهيبة القضاء، واستقرار المعاملات مما جعل الأصوات تتعالى بإعادة النظر فيها بين من ينادي بإصلاحها ومن ينادي بإلغائها.
ونحن نعتقد من خلال ممارستنا اليومية، والمشاكل العملية للفيف التي نعايشها، ونتتبعها من خلال نوازل العدول في مختلف الاستئنافيات، أن الجانب الكبير من هذه المشاكل ناجم عن “الازدواجية والتناقض” الذي يطبع العمل القضائي عموما وخاصة فيما يتصل بالتوثيق، والأحوال الشخصية، والعقار غير المحفظ، حيث تتداخل أحكام الفقه المالكي الإسلامي ومساطر القانون الوضعي المستمد في غالبه من القانون الفرنسي، في غيراستيعاب للفقه المالكي في كثير من الأحيان ولا تحرير لقواعده، والمشهور منه، وما جرى العمل به فيه، ولا ملاءمة للقواعد الموضوعية أو المسطرية الوضعية المنزلة على هذه القضايا، وخاصة شهادة اللفيف، مما يؤدي إلى أحكام غريبة ومتناقضة وقد تكون مجحفة بسبب ذلك في أحيان كثيرة.
حجية شهادة اللفيف
إن شهادة اللفيف تستمد حجيتها ضمن وسائل الإثبات في القضاء المغربي من كونها وسيلة قررها الاجتهاد الفقهي المالكي منذ القرن الثامن الهجري تقريبا، وجرى عليها العمل إلى الآن، ثم من القانون نفسه حيث يقرر الفصل 401 من قانون الالتزامات والعقود: >أنه لا يلزم لإثبات الالتزامات أي شكل خاص إلا في الأحوال التي يقرر القانون فيها شكلا معينا…< فيصح اعتماد شهادة اللفيف في كل ما لم يحدد له القانون شكلا خاصا للإثبات، كما يقرر الفصل 404 من نفس القانون أن وسائل الإثبات التي قررها القانون هي: 1 إقرار الخصم، 2 الحجة الكتابية، 3 شهادة الشهود، 4 القرينة الكتابية، 5 اليمين والنكول عنها” فتعتمد شهادة اللفيف بناء على الفقرة الثالثة باعتبارها شهادة مدونة يحق للخصم التمسك بإخضاعها للإجراءات المسطرية اللازمة لسماع شهادة الشهود كما قضى قرار الملجس الأعلى رقم 717 بتاريخ 1976/12/08 عن الغرفة المدنية أو تعتمد بناء على الفقرة الرابعة باعتبارها قرينة فعلية تخضع في قيمتها كوسيلة إثباتية لقضاة الموضوع في إطار سلطتهم التقديرية كما نص على ذلك قرار المجلس الأعلى عدد 224 بتاريخ 21 يونيو 1974 ملف اجتماعي.
بل تستمد حجيتها من القانون بشكل أوضح وأقوى في مجال الأحوال الشخصية من مدونة الأحوال الشخصية في الفصل الخامس في فقرته الخامسة، وفي إحالات مدونة الأحوال الشخصية المغربية على المذهب المالكي في راجحه ومشهوره وما جرى به العمل فيه.
ومعلوم أن شهادة اللفيف من مكونات البينة الشرعية فقها، كما أنها مما جرى به العمل في المذهب المالكي.
تنظيم الفقه المالكي لشهادة اللفيف
والفقه المالكي حينما أقر شهادة اللفيف لاعتبارات ترجع إلى الضرورة وحفظ حقوق الناس بتيسير الإثبات ورفع الحرج عنهم في هذا الباب، فإنه أقرها في منظومة متكاملة،وتصور شامل لمفهومها، وضرورتها، وطبيعتها، والقواعد الكفيلة بحسن إعمالها، وتوفر الظن الغالب بتحقيق العدل في الحكم بها نزعا أو عطاء، ونفي الخصومات وإنهاء المنازعات.
ولهذا ارتبطت “شهادة اللفيف” بأحكام “الاستفسار” و”تزكية الشاهد” و”تجريحه” و”الرجوع في الشهادة” و”الإنكار المجرد” وقواعد “الجمع والترجيح” بين البينات عند التعارض، والفرق بين “الشهادة بالباطل” و”الشهادة بالزور”، وأحكام حماية الشاهد من مضارته بسبب شهادته، وأحكام ضمانه وتغريمه، وكذا متابعته وتأديبه في منظومة متكاملة، وتصور شامل، وتنظيم دقيق تحصينا لهذه الوسيلة الإثباتية من المبطلين والطاعنين لأهواء شخصية، وحماية لها من الانحراف وحملا لها على جادة الصواب، قصد تحقيق العدل، وحماية مصالح الناس…
الازدواجية في العمل القضائي وأثرها على شهادة اللفيف: أمثلة ونماذج
لكن مشكل “الازدواجية والتناقض ” في العمل القضائي الذي تكلمنا عنه أدى إلى العمل بشهادة اللفيف بشكل مبتور، ففصلت عن نسقها وعمل بها باعتبارها وسيلة إثبات مع تطبيق قواعد ومساطر وضعية بخصوصها لا تلائمها ولا تنطبق عليها، فأدت إلى أحكام غريبة ومتناقضة ومجحفة في كثير من الأحيان.
ومن الأمثلة على ذلك “دلالة” شهادة اللفيف، فمن المقرر فقها أنها دلالة ظنية، تفيد غلبة الظن بما شهد به شهودها، وليست دلالة قطعية، ومن هنا اشترط الفقه الاستفسار، ورهن إعمال اللفيف به قطعا لما يعتريه من إجمال، ويتطرق إليه من احتمال باعتباره شهادة ممن لا تتوفر فيه العدالة ولا يعرف ما تصح به الشهادة، ولأجل هذه الظنية كذلك قرر قواعد الجمع والترجيح بين البينات عند التعارض، ومعلوم أن التعارض لا يكون في القطعيات وإنما في الظنيات.
وإذا رجعنا إلى العمل القضائي الزجري خاصة نجده يخالف هذا المقرر الفقهي إذ يتعامل مع اللفيف باعتباره حجة رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور مع العلم أن المجلس الأعلى في قراره رقم 809 بتاريخ 1982/12/25 ذهب إلى أن شهادة اللفيف تعتبر حجة رسمية من حيث الشكل فقط أما محتواها فمجرد شهادة.
ومن الأمثلة كذلك “الرجوع في الشهادة”، فإن الفقه في انسجام مع قواعده المكونة لتصوره العام عن اللفيف أباح للشاهد الرجوع عن شهادته قبل صدور الحكم لجواز الخطأ عليه، وإمكان تطرق الوهم أو الإبهام والإجمال المشينين إلى شهادته، خاصة وأنه قد يغرم ما ضيع بسبب شهادته حسب الأحوال، يقول المتحف:
وراجع عنها قبوله اعتبر ما الحكم لم يمض وإن لم يعتذر
لكننا نجد العمل القضائي الزجري خاصة يضطرب، فمرة لا يعير الرجوع أي اهتمام ويجري مسطرة المتابعة بشهادة الزور مع العلم أن اللفيف الذي رجع بعض شهوده أو كلهم يعتبر شهادة لاغية لا عمل بها، ومرة يعتبر أن الرجوع عن الشهادة قرينة الزور بينما هو أمر سائغ معمول به فقها إذا كان قبل إعمال الشهادة وإمضاء الحكم.
وفي حكم “الرجوع في الشهادة” “الإنكار المجرد لها”، فقد قرر الفقهاء أن “الإنكار المجرد” للشاهد أن الشهادة صدرت منه هو بمثابة رجوعه عنها، ذلك أن شهادة العدلين عليه بصدورها عنه أقوى من إنكاره المجرد، لقوة شهادة العدلين فقها ورجحانها على ما سواها، وحتى من الناحية القانونية فهذا هو أحد جوانب “الرسمية” في شهادة اللفيف بمقتضى الفصلين 418 و419 من قانون الالتزامات والعقود في ظل اجتهاد المجلس الأعلى المفسر لمعنى “الرسمية” في شهادة اللفيف رقم 809 المشار إليه، ويستفاد من ذلك أن شهادة العدول على الشهود بما شهدوا به حجة قاطعة عليهم في ذلك..
لكن الغريب أن بعض متابعات النيابة العامة، وكذا بعض أحكام القضاء الزجري يقلبان هذه القواعد رأسا على عقب حيث يجعلون الإنكار المجرد للشهود صدور الشهادة عنهم حجة في مواجهة شهادة العدول بصدور الشهادة منهم التي هي حجة قاطعة فقها وقانونا.
الخلط بين الشهادة اللفيفية الاسترعائية، والشهادة العلمية العدلية
ومن ذلك الخلط في متابعات النيابة العامة وبعض أحكام القضاء الزجري في شهادات اللفيف بين عمل العدل باعتباره موثقا يدون شهادة الشهود وبين علمه باعتباره شاهدا.
فمن المعروف توثيقا أن الشهادات نوعان:
أصلية: وهي التي يشهد فيها الشاهد على ما أشهد به الأطراف من معاملات.
واسترعائية: وهي التي يشهد فيها الشاهد بما يعلم من وقائع مادية.
وهذه الثانية نوعان: شهادة العدول، وهي الشهادة العلمية، أي التي يؤدي فيها العدل الشهادة من علمه وتكون بصيغة “يشهد الواضع شكله عقبه…
وشهادة اللفيف، وهي الشهادة التي عدل بها عن شهادة العدول للضرورة وحاجة الناس إليها:
وتكون من إثني عشر شاهدا على ما استقر عليه العمل، ويكون عمل العدل فيها مقتصرا على تدوين شهادة هؤلاء الشهود وأقوالهم، وتوثق بصيغة “شهوده الموضوعة أسماؤهم عقبه يعرفون كذا…”.
وما دام عمل العدول مقتصرا على التدوين لترفع بعد ذلك الشهادة إلى الجهة المختصة، وهي القضاء، للنظر فيها ومقارنتها بما يعارضها وتقييمها، فقد يشهد العدل على بينة بالإثبات في قضية،وعلى أخرى بالنفي في نفس القضية، ولا غضاضة في ذلك ولا تناقض في عمله ما دام مدونا في جميع الحالات، والتقييم والحكم موكول إلى الجهة المختصة.
غير أن هذه الأحكام البديهية في التوثيق نجدها غائبة في العمل القضائي الزجري خاصة كما أشرنا، والذي قد يؤاخذ العدول على إقامة بينة مناقضة لأخرى سبق أن تلقوها في خلط عجيب بين الشهادة اللفيفية الاسترعائية، والشهادة العلمية العدلية.
هذه نماذج من مشكل “الازدواجية ،التناقض” الذي يطبع العمل القضائي في تعامله مع التوثيق عامة، وشهادة اللفيف خاصة، والطعن فيها بالزور على وجه الخصوص، مما كثرت بسببه التحقيقات والاستنطاقات، وامتلأت المحاكم بالملفات، وضاعت كثير من الحقوق بسبب ذلك، وظلم كثير من العدول والشهود على السواء بسبب سوء فهم شهادة اللفيف وطبيعتها، وسوء التعامل معها بإخضاعها لقواعد ومساطر غريبة عنها ولا تلائمها، وفصلها عن سياقها الذي نشأت فيه، ومنظومتها التي تحكمها وتنظمها مما هو مقرر في الفقه المالكي والذي لا زلنا نجد له صدى في قرارات المجلس الأعلى، وفي بعض اتجاهات العمل القضائي فيما دون ذلك، فنحن لا نعمم ما قلنا على جميع العمل القضائي بل إن اختلاف العمل القضائي وتضاربه في هذا الباب بين من يستوعب الفقه المالكي ويتقن إعمال قواعده في المجالات التي تخضع له، وبين من لا يستوعب ذلك ولا يتقنه، أو يعدل عنه إلى قواعد ومساطر القانون الوضعي وجه آخر من وجوه مشكل “الازدواجية والتناقض” في العمل القضائي المغربي كما أشرنا إلى ذلك.
شهادة اللفيف والقواعد القانونية الوضعية:
وكما أثرت هذه “الازدواجية” على حسن إعمال قواعد الفقه المالكي كما بينا أثرت في نفس الوقت على إعمال بعض القواعد والمساطر الموضوعية.
فمثلا عرف الفصل 368 من القانون الجنائي شهادة الزور بأنها “تغيير الحقيقة عمدا تغيرا من شأنه تضليل العدالة لصالح أحد الخصوم أو ضده، إذا أدلى بها شاهد بعد حلف اليمين في قضية جنائية أو مدنية، أو إدارية حتى أصبحت أقواله نهائية.<
فمع هذا النص كان لا ينبغي أن يجاري الطعن بالزور في اللفيفيات وخاصة قبل جريان الدعوى، ولا أداء الشاهد اليمين القانونية، ولا صيرورة أقواله نهائىة…
وينص الفصل 290 من قانون المسطرة الجنائية: “أنه إذا كان إثبات الجريمة متوقفا على حجة جارية عليها أحكام القانون المدني فيراعي القاضي في ذلك القانون المذكور”.
وهذا يوجب الرجوع إلى القانون المنظم للفيف عند كل طعن فيه، وهذا القانون هو قواعد الفقه المالكي وضوابطه كما جرى عليه العمل القضائي بالمغرب منذ قرون إلى الآن.
وهذا سند قانوني فيما قررناه من ضرورة الرجوع في شهادة اللفيف إلى قواعدها وضوابطها المستمدة من الفقه المالكي إضافة إلى ما يقتضيه المنطق ويؤيده العرف والعمل.
وهكذا يتبين لنا أن شهادة اللفيف لا تحظى بحسن إعمال قواعد الفقه المالكي، ولا قواعد ومساطر القانون الوضعي، وإن ترددها بين هذين المصدرين في غير استيعاب، ولا تكامل، ولا ملاءمة أدى إلى إضطراب العمل القضائي وارتباكه، وظهور أحكام غريبة ومتناقضة أضرت بالعدول أحيانا، وبالشهود أحيانا، وبحقوق الناس في كل الأحوال.
ولقد استغل الناس في ظل فساد الذمم وضمور الوازع الديني هذا الاضطراب في العمل القضائي في نظرته للفيف، وعلاقته بالعدول، ومنهج التعامل مع ذلك لما رأوا من سهولة توهين الوثائق والطعن فيها بالزور، واتخاذ ذلك مطية لنقض الأحكام القضائية، والتحلل من الالتزامات، وتجريح العدول.
خاتمة:
ونحن حينما نحمل العمل القضائي جزءا كبيرا من المشاكل المتعلقة بشهادة اللفيف، وما يترتب عنها من آثار مضرة بمصداقية التوثيق، وسمعة القضاء، ومصير استقرار المعاملات الذي هو أساس كل تنمية اجتماعية، لا نغفل أن مؤسسة التوثيق تتحمل بدورها جانبا مهما من المسؤولية بعدم احترامها للقواعد والضوابط الفقهية المنظمة لشهادة اللفيف جهلا أو تقصيرا، وحينما نقول مؤسسة التوثيق فإننا نعني العدل ابتداء، ثم قاضي التوثيق الذي لا يمكن أن نتحدث عن أي إخلالات للعدل بالضوابط التوثيقية في غيابه، لأنه الذي يراقب الرسوم، ويخاطب عليها، ويكسبها رسميتها.
هكذا ومن خلال هذا التحليل نخلص ونحن نتدارس إشكالية شهادة اللفيف وسبل معالجتها إلى أن المشكلة ليست في هذه الوسيلة الإثباتية كما تصورها الفقه المالكي وقعدها، لكن المشكلة الآن في فهم طبيعة هذه الشهادة، ومنهج التعامل معها.
وعليه فإن معالجة كثير من المشاكل التي يتخبط فيها التوثيق والقضاء، ومن ورائهما حقوق الناس ومصالحهم، من جراء شهادة اللفيف رهين في رأينا بتنظيم هذه الوسيلة الإثباتية وتقنين أحكامها وقواعدها المقررة فقها، وتوحيد العمل بها توثيقا وقضاء، والقضاء على كل أشكال الازدواجية والتناقض في العمل القضائي المغربي في هذا المجال.
نقصد بالفقه: الفقه المالكي في قواعده وضوابطه المتعلقة بالتوثيق، وخاصة شهادة اللفيف وما يتعلق بها من أحكام باعتباره هوواضع هذه الوسيلة الإثباتية، فهو المرجع فيما يتعلق بها من أحكام وقواعد.
ولا نعني بالقانون النصوص القانونية المتعلقة بهذا الموضوع فقط، ولكن العمل القضائي كذلك المطبق لهذه النصوص، والمنزل لها على الوقائع، بل هو المقصود أساسا لأنه هو الذي يعطي للنص القانوني فعاليته ويعمل على تحقيق مقاصده أو على العكس قد يجرده من ذلك.
ويأتي هذا العرض في إطار ما صارت تمثله “شهادة اللفيف” في وضعها الحالي من مشكل حقيقي يهدد مصداقية التوثيق، وهيبة القضاء، واستقرار المعاملات مما جعل الأصوات تتعالى بإعادة النظر فيها بين من ينادي بإصلاحها ومن ينادي بإلغائها.
ونحن نعتقد من خلال ممارستنا اليومية، والمشاكل العملية للفيف التي نعايشها، ونتتبعها من خلال نوازل العدول في مختلف الاستئنافيات، أن الجانب الكبير من هذه المشاكل ناجم عن “الازدواجية والتناقض” الذي يطبع العمل القضائي عموما وخاصة فيما يتصل بالتوثيق، والأحوال الشخصية، والعقار غير المحفظ، حيث تتداخل أحكام الفقه المالكي الإسلامي ومساطر القانون الوضعي المستمد في غالبه من القانون الفرنسي، في غيراستيعاب للفقه المالكي في كثير من الأحيان ولا تحرير لقواعده، والمشهور منه، وما جرى العمل به فيه، ولا ملاءمة للقواعد الموضوعية أو المسطرية الوضعية المنزلة على هذه القضايا، وخاصة شهادة اللفيف، مما يؤدي إلى أحكام غريبة ومتناقضة وقد تكون مجحفة بسبب ذلك في أحيان كثيرة.
حجية شهادة اللفيف
إن شهادة اللفيف تستمد حجيتها ضمن وسائل الإثبات في القضاء المغربي من كونها وسيلة قررها الاجتهاد الفقهي المالكي منذ القرن الثامن الهجري تقريبا، وجرى عليها العمل إلى الآن، ثم من القانون نفسه حيث يقرر الفصل 401 من قانون الالتزامات والعقود: >أنه لا يلزم لإثبات الالتزامات أي شكل خاص إلا في الأحوال التي يقرر القانون فيها شكلا معينا…< فيصح اعتماد شهادة اللفيف في كل ما لم يحدد له القانون شكلا خاصا للإثبات، كما يقرر الفصل 404 من نفس القانون أن وسائل الإثبات التي قررها القانون هي: 1 إقرار الخصم، 2 الحجة الكتابية، 3 شهادة الشهود، 4 القرينة الكتابية، 5 اليمين والنكول عنها” فتعتمد شهادة اللفيف بناء على الفقرة الثالثة باعتبارها شهادة مدونة يحق للخصم التمسك بإخضاعها للإجراءات المسطرية اللازمة لسماع شهادة الشهود كما قضى قرار الملجس الأعلى رقم 717 بتاريخ 1976/12/08 عن الغرفة المدنية أو تعتمد بناء على الفقرة الرابعة باعتبارها قرينة فعلية تخضع في قيمتها كوسيلة إثباتية لقضاة الموضوع في إطار سلطتهم التقديرية كما نص على ذلك قرار المجلس الأعلى عدد 224 بتاريخ 21 يونيو 1974 ملف اجتماعي.
بل تستمد حجيتها من القانون بشكل أوضح وأقوى في مجال الأحوال الشخصية من مدونة الأحوال الشخصية في الفصل الخامس في فقرته الخامسة، وفي إحالات مدونة الأحوال الشخصية المغربية على المذهب المالكي في راجحه ومشهوره وما جرى به العمل فيه.
ومعلوم أن شهادة اللفيف من مكونات البينة الشرعية فقها، كما أنها مما جرى به العمل في المذهب المالكي.
تنظيم الفقه المالكي لشهادة اللفيف
والفقه المالكي حينما أقر شهادة اللفيف لاعتبارات ترجع إلى الضرورة وحفظ حقوق الناس بتيسير الإثبات ورفع الحرج عنهم في هذا الباب، فإنه أقرها في منظومة متكاملة،وتصور شامل لمفهومها، وضرورتها، وطبيعتها، والقواعد الكفيلة بحسن إعمالها، وتوفر الظن الغالب بتحقيق العدل في الحكم بها نزعا أو عطاء، ونفي الخصومات وإنهاء المنازعات.
ولهذا ارتبطت “شهادة اللفيف” بأحكام “الاستفسار” و”تزكية الشاهد” و”تجريحه” و”الرجوع في الشهادة” و”الإنكار المجرد” وقواعد “الجمع والترجيح” بين البينات عند التعارض، والفرق بين “الشهادة بالباطل” و”الشهادة بالزور”، وأحكام حماية الشاهد من مضارته بسبب شهادته، وأحكام ضمانه وتغريمه، وكذا متابعته وتأديبه في منظومة متكاملة، وتصور شامل، وتنظيم دقيق تحصينا لهذه الوسيلة الإثباتية من المبطلين والطاعنين لأهواء شخصية، وحماية لها من الانحراف وحملا لها على جادة الصواب، قصد تحقيق العدل، وحماية مصالح الناس…
الازدواجية في العمل القضائي وأثرها على شهادة اللفيف: أمثلة ونماذج
لكن مشكل “الازدواجية والتناقض ” في العمل القضائي الذي تكلمنا عنه أدى إلى العمل بشهادة اللفيف بشكل مبتور، ففصلت عن نسقها وعمل بها باعتبارها وسيلة إثبات مع تطبيق قواعد ومساطر وضعية بخصوصها لا تلائمها ولا تنطبق عليها، فأدت إلى أحكام غريبة ومتناقضة ومجحفة في كثير من الأحيان.
ومن الأمثلة على ذلك “دلالة” شهادة اللفيف، فمن المقرر فقها أنها دلالة ظنية، تفيد غلبة الظن بما شهد به شهودها، وليست دلالة قطعية، ومن هنا اشترط الفقه الاستفسار، ورهن إعمال اللفيف به قطعا لما يعتريه من إجمال، ويتطرق إليه من احتمال باعتباره شهادة ممن لا تتوفر فيه العدالة ولا يعرف ما تصح به الشهادة، ولأجل هذه الظنية كذلك قرر قواعد الجمع والترجيح بين البينات عند التعارض، ومعلوم أن التعارض لا يكون في القطعيات وإنما في الظنيات.
وإذا رجعنا إلى العمل القضائي الزجري خاصة نجده يخالف هذا المقرر الفقهي إذ يتعامل مع اللفيف باعتباره حجة رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور مع العلم أن المجلس الأعلى في قراره رقم 809 بتاريخ 1982/12/25 ذهب إلى أن شهادة اللفيف تعتبر حجة رسمية من حيث الشكل فقط أما محتواها فمجرد شهادة.
ومن الأمثلة كذلك “الرجوع في الشهادة”، فإن الفقه في انسجام مع قواعده المكونة لتصوره العام عن اللفيف أباح للشاهد الرجوع عن شهادته قبل صدور الحكم لجواز الخطأ عليه، وإمكان تطرق الوهم أو الإبهام والإجمال المشينين إلى شهادته، خاصة وأنه قد يغرم ما ضيع بسبب شهادته حسب الأحوال، يقول المتحف:
وراجع عنها قبوله اعتبر ما الحكم لم يمض وإن لم يعتذر
لكننا نجد العمل القضائي الزجري خاصة يضطرب، فمرة لا يعير الرجوع أي اهتمام ويجري مسطرة المتابعة بشهادة الزور مع العلم أن اللفيف الذي رجع بعض شهوده أو كلهم يعتبر شهادة لاغية لا عمل بها، ومرة يعتبر أن الرجوع عن الشهادة قرينة الزور بينما هو أمر سائغ معمول به فقها إذا كان قبل إعمال الشهادة وإمضاء الحكم.
وفي حكم “الرجوع في الشهادة” “الإنكار المجرد لها”، فقد قرر الفقهاء أن “الإنكار المجرد” للشاهد أن الشهادة صدرت منه هو بمثابة رجوعه عنها، ذلك أن شهادة العدلين عليه بصدورها عنه أقوى من إنكاره المجرد، لقوة شهادة العدلين فقها ورجحانها على ما سواها، وحتى من الناحية القانونية فهذا هو أحد جوانب “الرسمية” في شهادة اللفيف بمقتضى الفصلين 418 و419 من قانون الالتزامات والعقود في ظل اجتهاد المجلس الأعلى المفسر لمعنى “الرسمية” في شهادة اللفيف رقم 809 المشار إليه، ويستفاد من ذلك أن شهادة العدول على الشهود بما شهدوا به حجة قاطعة عليهم في ذلك..
لكن الغريب أن بعض متابعات النيابة العامة، وكذا بعض أحكام القضاء الزجري يقلبان هذه القواعد رأسا على عقب حيث يجعلون الإنكار المجرد للشهود صدور الشهادة عنهم حجة في مواجهة شهادة العدول بصدور الشهادة منهم التي هي حجة قاطعة فقها وقانونا.
الخلط بين الشهادة اللفيفية الاسترعائية، والشهادة العلمية العدلية
ومن ذلك الخلط في متابعات النيابة العامة وبعض أحكام القضاء الزجري في شهادات اللفيف بين عمل العدل باعتباره موثقا يدون شهادة الشهود وبين علمه باعتباره شاهدا.
فمن المعروف توثيقا أن الشهادات نوعان:
أصلية: وهي التي يشهد فيها الشاهد على ما أشهد به الأطراف من معاملات.
واسترعائية: وهي التي يشهد فيها الشاهد بما يعلم من وقائع مادية.
وهذه الثانية نوعان: شهادة العدول، وهي الشهادة العلمية، أي التي يؤدي فيها العدل الشهادة من علمه وتكون بصيغة “يشهد الواضع شكله عقبه…
وشهادة اللفيف، وهي الشهادة التي عدل بها عن شهادة العدول للضرورة وحاجة الناس إليها:
وتكون من إثني عشر شاهدا على ما استقر عليه العمل، ويكون عمل العدل فيها مقتصرا على تدوين شهادة هؤلاء الشهود وأقوالهم، وتوثق بصيغة “شهوده الموضوعة أسماؤهم عقبه يعرفون كذا…”.
وما دام عمل العدول مقتصرا على التدوين لترفع بعد ذلك الشهادة إلى الجهة المختصة، وهي القضاء، للنظر فيها ومقارنتها بما يعارضها وتقييمها، فقد يشهد العدل على بينة بالإثبات في قضية،وعلى أخرى بالنفي في نفس القضية، ولا غضاضة في ذلك ولا تناقض في عمله ما دام مدونا في جميع الحالات، والتقييم والحكم موكول إلى الجهة المختصة.
غير أن هذه الأحكام البديهية في التوثيق نجدها غائبة في العمل القضائي الزجري خاصة كما أشرنا، والذي قد يؤاخذ العدول على إقامة بينة مناقضة لأخرى سبق أن تلقوها في خلط عجيب بين الشهادة اللفيفية الاسترعائية، والشهادة العلمية العدلية.
هذه نماذج من مشكل “الازدواجية ،التناقض” الذي يطبع العمل القضائي في تعامله مع التوثيق عامة، وشهادة اللفيف خاصة، والطعن فيها بالزور على وجه الخصوص، مما كثرت بسببه التحقيقات والاستنطاقات، وامتلأت المحاكم بالملفات، وضاعت كثير من الحقوق بسبب ذلك، وظلم كثير من العدول والشهود على السواء بسبب سوء فهم شهادة اللفيف وطبيعتها، وسوء التعامل معها بإخضاعها لقواعد ومساطر غريبة عنها ولا تلائمها، وفصلها عن سياقها الذي نشأت فيه، ومنظومتها التي تحكمها وتنظمها مما هو مقرر في الفقه المالكي والذي لا زلنا نجد له صدى في قرارات المجلس الأعلى، وفي بعض اتجاهات العمل القضائي فيما دون ذلك، فنحن لا نعمم ما قلنا على جميع العمل القضائي بل إن اختلاف العمل القضائي وتضاربه في هذا الباب بين من يستوعب الفقه المالكي ويتقن إعمال قواعده في المجالات التي تخضع له، وبين من لا يستوعب ذلك ولا يتقنه، أو يعدل عنه إلى قواعد ومساطر القانون الوضعي وجه آخر من وجوه مشكل “الازدواجية والتناقض” في العمل القضائي المغربي كما أشرنا إلى ذلك.
شهادة اللفيف والقواعد القانونية الوضعية:
وكما أثرت هذه “الازدواجية” على حسن إعمال قواعد الفقه المالكي كما بينا أثرت في نفس الوقت على إعمال بعض القواعد والمساطر الموضوعية.
فمثلا عرف الفصل 368 من القانون الجنائي شهادة الزور بأنها “تغيير الحقيقة عمدا تغيرا من شأنه تضليل العدالة لصالح أحد الخصوم أو ضده، إذا أدلى بها شاهد بعد حلف اليمين في قضية جنائية أو مدنية، أو إدارية حتى أصبحت أقواله نهائية.<
فمع هذا النص كان لا ينبغي أن يجاري الطعن بالزور في اللفيفيات وخاصة قبل جريان الدعوى، ولا أداء الشاهد اليمين القانونية، ولا صيرورة أقواله نهائىة…
وينص الفصل 290 من قانون المسطرة الجنائية: “أنه إذا كان إثبات الجريمة متوقفا على حجة جارية عليها أحكام القانون المدني فيراعي القاضي في ذلك القانون المذكور”.
وهذا يوجب الرجوع إلى القانون المنظم للفيف عند كل طعن فيه، وهذا القانون هو قواعد الفقه المالكي وضوابطه كما جرى عليه العمل القضائي بالمغرب منذ قرون إلى الآن.
وهذا سند قانوني فيما قررناه من ضرورة الرجوع في شهادة اللفيف إلى قواعدها وضوابطها المستمدة من الفقه المالكي إضافة إلى ما يقتضيه المنطق ويؤيده العرف والعمل.
وهكذا يتبين لنا أن شهادة اللفيف لا تحظى بحسن إعمال قواعد الفقه المالكي، ولا قواعد ومساطر القانون الوضعي، وإن ترددها بين هذين المصدرين في غير استيعاب، ولا تكامل، ولا ملاءمة أدى إلى إضطراب العمل القضائي وارتباكه، وظهور أحكام غريبة ومتناقضة أضرت بالعدول أحيانا، وبالشهود أحيانا، وبحقوق الناس في كل الأحوال.
ولقد استغل الناس في ظل فساد الذمم وضمور الوازع الديني هذا الاضطراب في العمل القضائي في نظرته للفيف، وعلاقته بالعدول، ومنهج التعامل مع ذلك لما رأوا من سهولة توهين الوثائق والطعن فيها بالزور، واتخاذ ذلك مطية لنقض الأحكام القضائية، والتحلل من الالتزامات، وتجريح العدول.
خاتمة:
ونحن حينما نحمل العمل القضائي جزءا كبيرا من المشاكل المتعلقة بشهادة اللفيف، وما يترتب عنها من آثار مضرة بمصداقية التوثيق، وسمعة القضاء، ومصير استقرار المعاملات الذي هو أساس كل تنمية اجتماعية، لا نغفل أن مؤسسة التوثيق تتحمل بدورها جانبا مهما من المسؤولية بعدم احترامها للقواعد والضوابط الفقهية المنظمة لشهادة اللفيف جهلا أو تقصيرا، وحينما نقول مؤسسة التوثيق فإننا نعني العدل ابتداء، ثم قاضي التوثيق الذي لا يمكن أن نتحدث عن أي إخلالات للعدل بالضوابط التوثيقية في غيابه، لأنه الذي يراقب الرسوم، ويخاطب عليها، ويكسبها رسميتها.
هكذا ومن خلال هذا التحليل نخلص ونحن نتدارس إشكالية شهادة اللفيف وسبل معالجتها إلى أن المشكلة ليست في هذه الوسيلة الإثباتية كما تصورها الفقه المالكي وقعدها، لكن المشكلة الآن في فهم طبيعة هذه الشهادة، ومنهج التعامل معها.
وعليه فإن معالجة كثير من المشاكل التي يتخبط فيها التوثيق والقضاء، ومن ورائهما حقوق الناس ومصالحهم، من جراء شهادة اللفيف رهين في رأينا بتنظيم هذه الوسيلة الإثباتية وتقنين أحكامها وقواعدها المقررة فقها، وتوحيد العمل بها توثيقا وقضاء، والقضاء على كل أشكال الازدواجية والتناقض في العمل القضائي المغربي في هذا المجال.