السرقة – المتهم دائن للضحية – انعدام الجريمة

السرقة – المتهم دائن للضحية – انعدام الجريمة

images (69)

القرار رقم 3062/6

المؤرخ في  4/4/85

الملف الجنائي رقم 12527 

القاعدة:

– السرقة هي اختلاس مال الغير عمدا بنية تملكه وإن أخذ المتهم أكياس الغير لاستيفاء دين له عليه لا يعد سرقة وأن المحكمة لما عللت قضاءها بإدانته بأن تبرير أخذ هذه الأكياس كان لقاء دين له على الضحية لا بنفي عنه عنصر سوء النية تكون قد عللت قضاءها تعليلا فاسدا وعرضت قرارها للنقض.

 

باسم جلالة الملك

إن المجلس

وبعد المداولة طبقا للقانون.

نظرا للمذكرة المدلى بها من لندن طالب النقض.

في شأن وسيلة النقض الوحيدة المتخذة من سوء التعليل الموازي لانعدامه تحريف الوقائع عدم ارتكاز القرار على أساس قانوني سليم والتطبيق الخاطئ لنص الفصل 505 من مجموعة القانون الجنائي لذلك أن وقائع القضية وكما هوثابت من محضر الضابطة القضائية أن العارض طالب النقض لم يقم عمدا باختلاس أكياس القمح والشعير وإنما قام فقط بحبسها وبدون نية تفويت ملكيتها محل صاحبها المطلوب في النقض إلى حين أن يفي هذا الأخير بالدين الذي له لوالد العارض ومعطيات الملف لا تفيد بالقطع أن العارض تتوفر في حقه العناصر التكوينية للفصل 505 من القانون الجنائي إذ أن عناصر هذا الفصل تنطلق ابتداء من وجود العمد الجنائي وهوقصد خاص يهدف من ورائه صاحبه إلى الاستيلاء على ملك الغير.

بناء على الفصلين 347 و352 من قانون المسطرة الجنائية.

حيث إنه بمقتضى الفقرة السابعة من الفصل 347 والفقرة الثانية من الفصل 352 من القانون المذكور يجب أن يكون كل حكم معللا من الناحيتين الواقعية والقانونية وإلا كان باطلا وأن فساد التعليل يوازي انعدامه.

وحيث إن القرار المطعون فيه أيد الحكم الابتدائي المحكوم بمقتضاه على من أجل ارتكابه جنحة السرقة طبقا للفصل 505 من مجموعة القانون الجنائي بشهرين حبسا مشمولا بإيقاف التنفيذ ومائتي درهم غرامة وبتعويض مدني مع تعديل الحكم المستأنف بالرفع من مبلغ التعويض واقتصر في تعليل ذلك على القول:

” وحيث إن الحكم الابتدائي معلل تعليلا قانونيا مستندا إلى وقائع القضية بالملف الأمر الذي يتعين معه تأييده في مبدئه لسلامته …” كما أن الحكم الابتدائي اقتصر في تعليل الإدانة بقوله:

” وحيث إن ما يبرر به المتهم أخذه الأكياس السبعة وهورابطة المديونية لا تنفي عنه العنصر المعنوي الذي هوالنية الإجرامية “.

لكن حيث إن الفصل 505 من مجموعة القانون الجنائي المعاقب بمقتضاه العارض يشترط في اختلاس المال المملوك للغير أن يكون عمدا وهوالقصد الخاص أي نية التملك للشيء وأن أخذ الأكياس السبعة من أجل استيفاء الدين كما في النازلة الحالية لا يعتبر الفعل سرقة وأن ما ذهبت إليه المحكمة يعتبر من قبيل فساد التعليل الموازي لانعدامه وخرقا لمقتضيات الفصل 505 المذكور أعلاه الشيء الذي يكون معه القرار ناقص التعليل وغير مرتكز على أساس صحيح من القانون.

لهذه الأسباب

قضى بالنقض والإحالة.

الرئيس السيد الحاجي، المستشار المكلف السيد الزكيري، المحامي العام السيد الصفار، المحامي الأستاذ بنزكري.

2 Replies to “السرقة – المتهم دائن للضحية – انعدام الجريمة”

  1. تعليق
    على قرار المجلس الأعلى 3062
    الصادر بتاريخ 4 أبريل 1985
    للأستاذ عبد الحفيظ بلقاضي

    لا شك أن وقائع القضية المعروضة على المجلس الأعلى، والتي صدر بشأنها القرار المشار إليه تمتاز بالبساطة الشديدة: أمام مطل المدين لم يجد الدائن بدا من الاستيلاء على جزء من أمواله المنقولة والمتمثلة في بضعة أكياس من القمح والشعير استيفاء للمبلغ الذي كان له عليه.
    وتعبيرا من المدين عن رفض ” الأمر الواقع ” الذي أريد فرضه عليه لم يتوان عن متابعة دائنه قضائيا على أساس جريمة السرقة.
    وكان هذا الاتهام محل تأييد تام من محكمة ابتدائية فاس التي استجابت لطلبات المشتكي قائلة: ” وحيث إن ما يبرر به المتهم أخذه الأكياس السبعة هورابطة المديونية لا تنفي عنه العنصر المعنوي الذي هوالنية الإجرامية…”.
    ثم صدر الحكم الاستئنافي مؤيدا لصك الاتهام ومؤاخذا العارض ” من أجل ارتكاب جنحة السرقة طبقا للفصل 505 من مجموعة القانون الجنائي بشهرين حبسا مشمولا بإيقاف التنفيذ ومائتي درهم غرامة وبتعويض مدني مع تعديل الحكم المستأنف بالرفع من مبلغ التعويض “.
    وكان مما ساقه قضاة الدرجة الثانية تبريرا لاجتهادهم أن الحكم الابتدائي كان ” معللا تعليلا قانونيا مستندا إلى وقائع القضية بالملف الأمر الذي يتعين معه تأييده في مبدئه لسلامته … ”
    بيد أن اجتهاد قضاة الموضوع هذا لم يجد صدى طيبا لدى نظرائهم في المجلس الأعلى الذين قرروا نقض الحكم المطعون فيه استنادا إلى أن ” الفصل 505 من مجموعة القانون الجنائي المعاقب بمقتضاه العارض يشترط في اختلاس المال المملوك للغير أن يكون عمدا وهوالقصد الخاص أي نية التملك للشيء، وأن أخذ الأكياس السبعة من أجل استيفاء الدين كما في النازلة الحالية لا يعتبر الفعل سرقة، وأن ما ذهبت إليه المحكمة يعتبر من قبيل فساد التعليل الموازي لانعدامه وخرقا لمقتضيات الفصل 505 المذكور أعلاه الشيء الذي يكون معه القرار ناقص التعليل وغير مرتكز على أساس صحيح من القانون “.
    وقبل تناول هذا الاجتهاد بما يليق به من تحليل ومناقشة نقدية، لا بأس من بعض الاستطراد لإبداء بعض الملاحظات ذات الطبيعة العامة والتي من شأنها تسليط الأضواء على أهمية المجال الذي صدر فيه، والذي يتمثل في جرائم الأموال عموما والسرقة بوجه خاص.
    ما فتئ الفقه الجنائي المعاصر1 يعير اعتبارا خاصا لهذه الطائفة من الجرائم مبرزا المكانة المتميزة التي تشغلها في منظومة القسم الخاص من القانون الجنائي. ولعل أهم ما يحرص الشراح على التنويه به في هذا النطاق كون فقه القانون الجنائي – بقسميه العام والخاص – إنما تحققت صياغته الفنية من خلال اعتماد تلك الطائفة من الجرائم بالذات، وبالدرجة العالية من الصقل والضبط المحكم التي بلغتها القواعد التي تنتظمها على يد القضاء، نموذجا للتحليل والاستدلال، اعتبارا لأهميتها البالغة سواء من الوجهة الاجتماعية أومن الوجهة الفنية البحتة.
    ولا أدل على هذا من تجريم السرقة والعقاب عليها، فيما عدا القليل النادر من الحالات، في كل زمان ومكان، ومن أن هذه الجريمة من أكثر الجرائم وقوعا، وأنها من الجرائم التي تعد دائما ذات خطورة خاصة.
    من هنا، كانت الدرجة العليا التي بلغتها تلك الطائفة، من الجرائم من حيث الصياغة الفنية سببا في اعتمادها – في أكثر الحالات – مثالا يحتدى بالنسبة لغيرها من النماذج القانونية للوقائع المجرمة جنائيا كلما دعت الحاجة إلى إنشاء الجديد منها أوتحليل القائم منها فعلا.
    وإذا كان الأمر كذلك على الصعيد المقارن، فإلى أي حد يمكن اعتبار قضاء المجلس الأعلى، من خلال القرار الذي نحن بصدده، إسهاما إيجابيا في بناء صرح إحدى النظريات الهامة في جرائم الأموال، ألا وهي نظرية القصد الجنائي في جريمة السرقة ؟
    يتضح من الرجوع إلى مضمون هذا القرار وفحص أسبابه وحيثياته أنه صدر خلوا من كل سند قانوني يصلح أساسا لما قضى به من اجتهاد؛ ومعنى ذلك، بعبارة أخرى، أن قضاة النقض إنما التزموا هنا موقفا سلبيا محضا بحيث لم يجشموا أنفسهم، عند تقرير المبدأ القانوني المشار إليه، عناء مناقشة الأسباب التي تذرع بها قضاة الموضوع أوالرد عليها.
    وهذه الأسباب التي استنكف المجلس الأعلى عن الخوض فيها يجمع بينها أساس واحد يتأتى – في تقديرنا – في تحديد المركز القانوني الصحيح للدائن ( الفرع الأول )؛ فإذا صح لدينا أن المقدمات التي اعتمدها قضاة النقض منطلقا وأساسا في الاستدلال لم تسلم من شائبة الفساد، لن يكون غريبا أن تنتقل عدوى هذه الشائبة نفسها إلى النتيجة التي انتهى إليها القرار، على ما ينم بجلاء تام الاعتداد بالباعث كعنصر في تكوين القصد الجنائي في السرقة (الفرع الثاني).
    الفرع الأول
    تحديد المركز القانوني للدائن
    إن وضع القرار الذي بين أيدينا على محك القواعد القانونية الواجبة التطبيق على موضوع النزاع لا بد أن يفضي بنا إلى القول بأن ما جاء به من اجتهاد إنما يقف على طرفي نقيض من قاعدتين أصوليتين في القانون: تكتسي إحداهما صبغة موضوعية وتقضي باعتبار مال المدين مجرد ضمان عام للدائن (أولا) ؛ وتتخذ الثانية طابعا إجرائيا وتقضي بعدم جواز اقتضاء الحقوق بالوسائل الخاصة (ثانيا). ولا يخلوموقف المجلس الأعلى من مفارقة في الحالين معا، وذلك بسبب إنكاره للقاعدة الأولى التي ورد النص عليها صراحة في صلب القانون، وبسبب تنكره للقاعدة الثانية التي، وإن لم يشملها المشرع بنص صريح، لا تقل عن الأولى استقرارا ورسوخا في الوجدان القانوني.
    أولا: حق الضمان العام المقرر للدائن لا يخول الاستيلاء على أموال المدين.
    من المتفق عليه في فقه القانون المدني أن مال المدين ليس مالا مملوكا لدائنه ؛ وأن كل ما للثاني على أموال الأول هومجرد حق الضمان العام Droit de gage général.
    وهذه القاعدة الثابتة في مجمل النظم المقارنة 1هي التي نص عليها المشرع المغربي صراحة في صلب قانون الالتزامات والعقود ( م. 1241 ) 2.
    وبناء على هذا الحق يؤمن الدائن الحصول من أموال مدينه على التعويض المستحق له أوعلى النفقات التي يتحمل بها المدين في حالة القيام بتنفيذ الالتزام على نفقته.
    ويحرص فقهاء القانون المدني 1 على إبراز الخصائص المميزة لهذا الحق والتي تتمثل في كون الضمان العام يرد – كأصل عام – على جميع أموال المدين، وفي كونه يتساوى فيه جميع الدائنين، وفي أنه، خلافا للضمان الخاص، لا يخول حق التتبع. بيد أن أهم خاصية يتسم بها حق الضمان العام والتي تمت إلى الموضوع الذي نحن بصدده بصلة مباشرة إنما تتحصل في كونه لا يغل يد المدين: ” لما كان الضمان العام لا يرد على مال معين من أموال المدين، وإنما على ما يكون له من أموال وقت التنفيذ، فإنه لا يغل يد المدين في التصرف في أمواله وإدارتها، ولا يخول للدائن حق التدخل في إدارة المدين لأمواله، فطالما لم تتخذ إجراءات التنفيذ يظل المدين محتفظا بحقوقه كاملة على أمواله من حيث الإدارة والتصرف “2.
    من هنا، لا يصح الاستناد إلى حق الضمان العام المقرر للدائن على جميع أموال مدينه للقول بانتفاء القصد الجنائي لدى هذا الدائن إذا ما تطاول واختلس جزءا منها، كما يذهب إلى ذلك القرار الذي نحن بصدده: إن غاية ما لهذا الدائن هوحق شخصي في ذمة المدين لا على شيء بعينه. ومعنى هذا، بعبارة أخرى، هوعدم تمتع الدائن بأي حق مباشر على جزء معين من أموال مدينة قبل استصدار قرار توقيع الحجز عليها1.
    وينبني على هذا التحليل أن استيلاء الدائن على أموال مدينه – في الحالة المعروضة على أنظار المجلس الأعلى – ليس إلا استيلاء على مال مملوك للغير تحقق به جريمة السرقة المعاقب عليها قانونا. وكان هذا التعليل هوالذي سيق سندا للحكم الابتدائي (المؤيد استئنافيا) حينما برر قضاة الموضوع الإدانة من أجل السرقة بالقول: ” وحيث إن ما يبرر به المتهم أخذ الأكياس السبعة وهورابطة المديونية لا تنفي عنه العنصر المعنوي الذي هوالنية الإجرامية “.
    ثانيا: عدم جواز اقتضاء الحقوق بالوسائل الخاصة.
    من المعلوم أن القانون لا يمكنه أن يؤدي وظيفته الاجتماعية إلا من خلال تحديد مضمون الحقوق المعترف بها ونطاقها الصحيح، من جهة، وتعيين الوسائل التي تمكن من الوصول إلى هذه الحقوق من جهة أخرى، ولن تكون هذه الوسائل في خدمة القانون إلا إذا كانت جميعها وسائل مشروعة. Moyens légaux، أي منظمة بواسطة القانون ” فقد ولى العهد الذي كان الإنسان يحتكم فيه إلى قوته الذاتية للاقتصاص من خصمه أولاقتضاء حقه لنفسه بنفسه”2، وأصبح إحقاق الحق من المهام التي تتولاها الدولة، وأضحى تنظيم العدالة وتنظيم اللجوء إليها عنوانا للمجتمع المتمدن.
    من هنا، القاعدة الراسخة في الوعي القانوني والجارية مجرى الأمثال: لا يجوز لأحد اقتضاء حقه بنفسه nul ne peut se faire justice à soi même.
    وهي من القواعد التي ” تبرر نفسها بنفسها” (1)، والتي يتعين العمل بمقتضاها ولولم يرد بشأنها أي نص صريح (2)، وذلك تحسبا لما يؤدي إليه اللجوء إلى العدالة الخاصة من عواقب وخيمة بالنسبة للضعفاء، وتفاديا لما يحدثه اللجوء إلى هذه الوسيلة من اضطراب اجتماعي خطير، فضلا عما يفضي إليه ذلك – في نهاية المطاف – من إنكار للعدالة نفسها (3).
    من هنا، كان حرص المشرع الوضعي في الأنظمة المعاصرة على شمول محتوى هذه القاعدة بالحماية القانونية، وذلك إما بالعقاب على مخالفتها في حالات محددة بموجب نصوص تجريمية خاصة، كما هوالحال في القانون الجنائي الإيطالي (4) ( م. 393-392 ) والإسباني (5) الجديد لعام 1995 (م 455) ؛ وإما بفرض احترامها من خلال تطبيق القواعد العامة في القانون الجنائي، كما هوالحال في القانون الفرنسي والقوانين الواقعة تحت هيمنة مدونة ” نابليون ” الجنائية (6).
    وترتيبا على ذلك يصبح الدين أيا كانت قيمته غير قابل للاقتضاء إلا بالطرق التي حددها القانون، مما يجعل من غير الجائز للدائن أن يستولي على مال مملوك للغير استيفاء لحقه دون أن يتقرر له أخذ هذا المال بالطرق المنظمة قانونا.
    إن مثل هذا الدائن مثل صاحب الحق غير المنازع فيه والذي يعمد إلى ممارسته وفق الغرض المحدد له قانونا، ولكن دون اللجوء إلى العدالة مكتفيا باستعمال وسائله الخاصة، كالوارث الذي يعثر على سند يثبت أن حقه في العقار يزيد عما كان مقررا حسب تقديره السابق فيلجأ إلى تغيير حدود نصيبه في الميراث أوصاحب الحق الذي يقوم بإزالة الحواجز التي تعترض حقه في المرور من غير استصدار حكم قضائي يخول له هذا الارتفاق (1). صحيح أن المالك لم يزد هنا شيئا عما كان يتعين على المحكمة القيام به، إلا أن عمله يشكل – في ذاته – افتأتا على الامتياز المقرر للسلطة القضائية مما يستوجب العقاب بغض النظر عن كل اعتبار يتعلق بجوهر الحق نفسه.
    وإذا كان صحيحا أيضا أن الباعث الذي دفع المتهم إلى ارتكاب الفعل في سائر هذه الأحوال باعث مشروع، فما مدى تأثير هذا العنصر في تكوين القصد الجنائي ؟

    الفرع الثاني
    الباعث المشروع لا ينفى القصد الجنائي في السرقة
    درج الفقه والقضاء على اعتبار النموذج القانوني للجريمة متحققا في السرقة باجتماع ركنين أساسيين:
    ركن مادي قوامه فعلا الاختلاس، وركن معنوي مؤداه القصد الجنائي الذي يتضمن نية التملك.
    وإذا كان ثمة خلاف بشأن القصد الخاص dolus specialis ومدى اعتباره عنصرا أساسيا في الركن المعنوي للجريمة أومجرد عنصر يفترضه فعل الاختلاس ذاته، فإن من المسلم به سواء بين جمهور الفقهاء ( أولا ) أوبين الاتجاه السائد في القضاء الجنائي المقارن (ثانيا) أنه لا عبرة بالباعث Mobile الذي دفع صاحبه إلى ارتكاب الفعل لوقوعه خارج العناصر المؤسسة للقصد الجنائي.
    أولا: موقف الفقه.
    كثيرا ما يعني شراح القانون الجنائي (1) حينما ينبرون للركن المعنوي للجرائم العمدية بالشرح والتحليل بالتشديد على أهمية التمييز بين كل من ” الغرض ” و” الغاية “، و” الباعث ” و” القصد الجنائي ” من جهة أخرى.
    إلا أن هذا الحيز يضيق بنا حتما عند التصدي لهذا الموضوع بكل ما يليق به من إسهاب مما لا نجد معه بدا من الاجتزاء بالإشارة إلى بعض المفاهيم الأساسية.
    لئن كان القصد الجنائي متحققا بثبوت اتجاه إرادة الفاعل إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة وإلى إحداث النتيجة التي يعاقب عليها القانون في هذه الجريمة، فإن الاختلاف بين الغرض But intermédiaire ou direct والغاية But final
    يرتد إلى كون الأول هدفا قريبا للإدارة، وإلى كون الثاني هدفا أخيرا لها(1) ؛ أما الباعث Mobile فهوتصور الغاية، أوهوفي عبارة أخرى، السبب الدافع إلى إشباع الحاجة، أوهونشاط نفسي يتعلق بالغاية ولا شأن له بالغرض.
    وتطبيق هذا النموذج في التحليل على السرقة يفضي بنا إلى القول إن الاستيلاء على المال وتملكه هوالغرض الذي يستهدفه النشاط الإرادي، والإرادة المتجهة إلى الاستيلاء والتملك هي القصد الجنائي، وإشباع الحاجة الشديدة إلى المال أوالرغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال الاستيلاء على أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء(2) ( مثلا ) هي الغاية، والدافع النفسي إلى إشباع الحاجة أوالرغبة هوالباعث(3).
    ولكن، ” هل يكتسي أهمية ما – كما يقول Garraud -أن يصدر التصرف بدافع شرير بحت أوبقصد الإثراء ومن أجل أن يدر صاحبه من الشيء المختلس نفعا ؟ “. يجيب الفقيه الفرنسي عن هذا التساؤل قائلا: ” إن الباعث الذي يحدوبالجاني إلى ارتكاب الفعل إنما يقع وقوعا غير مؤثر على المسؤولية الجنائية ؛ أما العنصر الوحيد الذي يحظى بالاعتبار ويستدعي التحري والتقرير فيتحصل في النية التي يعقدها الفاعل على تملك الشيء عالما بكونه غير مملوك له، وأنه ليس من الأموال المباحة أوالمتروكة، وذلك ضدا على إرادة المالك، ومع الحرص على الظهور على هذا الشيء بمظهر المالك نفسه” (1).

    ويمضي الفقه الجنائي الفرنسي المعاصر(2) في الاتجاه نفسه مؤكدا أن من الكفاية بمكان توافر نية تملك مال الغير
    animus domini لقيام القصد الجنائي لدى المختلس، ودونما ضرورة لتحقق قصد الإثراء(3) animus lucri لديه.
    وإذا كان الأصل أن يكون الباعث الدافع إلى السرقة هوالإثراء وتحقيق غاية غير مشروعة، فإن مما لا يحول دون اكتمال مقومات الجريمة أن تتخذ هذه الغاية وذلك الباعث صبغة أخرى، ومما يدخل في هذا القبيل: أن يرمي الجاني إلى استرداد مال يعتقد أن الغير قد استولى عليه بطريق غير مشروع، كأن يحاول الخاسر أن يسترد المال الذي خسره في لعب القمار ؛ أوأن يسعى المتهم إلى استيفاء دين له على المجني عليه كالمكري الذي يختلس محصول العين المكراة أوبعض المنقولات المملوكة للمكتري وفاء للأجرة ؛ كما يدخل في هذا القبيل أيضا الخادم الذي يختلس متاعا لسيده نظير ما بقي له من أجر(1).
    نخلص من ذلك كله إلى أن المبدأ المستقر في التشريعات الجنائية الحديثة هوعدم الاعتداء بالباعث الدافع إلى ارتكاب الجريمة، وعدم الالتفات إلى الغاية المستهدفة منها، لوقوعهما معا خارج العناصر المكونة للقصد الجنائي، وبالتالي، فإنهما لا ينفيانه وإن كانا نبيلين أومشروعين(2).
    بل إن جانبا من هذه التشريعات ينص صراحة على أنه ” لا عبرة بالباعث أوالغاية من قيام العمد أوالخطأ إلا في الأحوال التي ينص عليها القانون”(3).
    وهذا المبدأ المستقر فقهيا والمكرس تشريعيا – في بعض الأحيان – هوالذي درج القضاء على التقيد به في المجال الذي نحن بصدده تحديدا.
    ثانيا: موقف القضاء
    جاء في أحد أقدم قرارات محكمة النقض الفرنسية ” أن الدين لا يصلح سندا لإضفاء المشروعية على السرقة ”
    “Attendu qu’une créance ne peut légitimer un vol(1).
    وهذا الاجتهاد الذي أخذ به القضاء الفرنسي منذ بداية القرن التاسع عشر هوالذي تواتر عليه في قراراته اللاحقة – فيما عدا القليل النادر من الحالات الشاذة والمعزولة(2).
    وعديدة هي الأمثلة التطبيقية لهذا الموقف الاجتهادي، منها على سبيل المثال.
    – ” يعتبر استيلاء الدائن على شيء مملوك لمدينه سرقة معاقبا عليها قانونا متى قام الدليل على اقتران فعل المختلس بنية الغش”(3).
    – ومنها أيضا: ” … يتعين عدم الخلط من الناحية القانونية بين النية الإجرامية ومجرد الباعث: لئن كانت الأولى تتأتى في إرادة الاستيلاء على مال مملوك للفاعل، فإن الثاني لا يعدوكونه الرغبة والشعور الحافزين على تحقيق الفعل المجرم قانونا، مما يجعل تأثيره منحصرا في تخفيف العقاب” (4).
    – وكذلك أيضا: “من يستولي على أشياء منقولة ويعمد إلى إتلافها، مع علمه بكونها غير مملوكة له، يكون متسلطا على هذه الأموال دون وجه حق، ومقترفا لاختلاس مشوب بنية الغش ؛ ولا يعتد ببواعثه إلا من حيث تطبيق العقاب” (1).
    كما ظل القضاء الفرنسي وفيا لتقليده الاجتهادي في هذا المضمار من حيث عدم الاعتداد بالباعث في تكوين القصد الجنائي لدى المختلس حتى في بعض أحدث قراراته. وهوما يتجلى – بوجه خاص – في قضية تتلخص وقائعها في أن إدارة متحف ” اللوفر ” رفضت تجديد العقد الذي كان موظف منتدب لديها يعمل بمقتضاه رئيسا للمصلحة المكلفة بالحراسة ؛ وهوما أثار أشد الغيظ لدى الموظف الذي لم يتورع عن الاستيلاء على سبع من اللوحات الفنية التي كانت مودعة في قاعة محفوظات المتحف، إشارة منه إلى مدى الفراغ الذي خلفه قرار الاستغناء عن خدماته التي بدونها لن يعرف الأمن في ربوع المتحف استتبابا ! ولكنه، للتدليل على عدم اتجاه نيته إلى الاستئثار بملكية تلك اللوحات قام – بعد وضع يده عليها – بإرسالها فورا إلى القائمين على تحرير إحدى المجلات الأسبوعية (Minute) سعيا وراء تسليط الأضواء على مدى الخلل الذي أصبح يعتري النظام المتبع في حراسة المتحف.
    بيد أن هذه الأسباب جميعا لم تثن محكمة باريس المرفوع أمامها أمر النظر في هذه القضية عن تقرير إدانة المتهم عن جريمة السرقة ومعاقبته بسنة ونصف حبسا مع إيقاف التنفيذ والمنع من مزاولة الوظيفة العمومية لمدة خمس سنوات، دونما اعتبار للباعث المحرك على ارتكاب الفعل والذي لم يكن إلا ” الرغبة في الإضرار أوالاستجابة للشعور بالانتقام ( 2 ): Le désir de nuire ou de satisfaire un sentiment de vengeance”.
    وفي قرار صادر عن محكمة النقض الفرنسية، في السنوات الأخيرة، حسما لنزاع يتفق – من حيث ما يثيره من إشكال قانوني – اتفاقا تاما مع النزاع الذي تصدى له المجلس الأعلى في القرار المشار إليه، لم تشذ الغرامة الجنائية بهذه المحكمة عن تقليدها القديم. وتتلخص وقائع القضية المعروضة على هذه الأخيرة في أن جماعة من العمال الغابويين قرروا – بعد خوضهم إضرابا دام شهرين – استئناف عملهم من أجل الحصول على المستحقات التي حرموا منها. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، اتفقوا فيما بينهم – ودونما استئذان لرب عملهم – على طرح كمية من الأخشاب المملوكة لصاحب المعمل للبيع من أجل تقاسم عائدها فيما بينهم كمقابل لأجورهم المستحقة وتسليم الباقي إلى رب العمل. إلا أن المحكمة العليا الفرنسية لم تعبث بهذا الباعث ” المشروع” وقررت إدانة المتهمين من أجل السرقة طالما كان ثابتا وقوع الاختلاس على شيء مملوك للغير بنية تملكه (1)
    خاتمة :
    يتبين من مجمل الشواهد الفقهية والقضائية (2) التي عرضنا لها في الفقرات السابقة أن الوصف القانوني لا يتأثر بالباعث الدافع إلى الفعل، فوضع اليد على مال الغير بدافع الانتقام أولتحصيل دين للفاعل أوللتخلص من رسائل محرجة يحتفظ بها المالك تهديدا للفاعل (1) لا يغير من وصف الجريمة المرتكبة مساسا بمال الغير سرقة كانت أم نصبا(2).
    وهذا الموقف الذي لا يخلومن صرامة وتشدد ينسجم تماما مع النظرية القانونية الموسعة من مفهوم الاختلاس التي كان لقضاء النقض الفرنسي الفضل الأكبر في رسم معالمها. (3)
    بيد أن هذا الموقف الاجتهادي، وإن كان يتفق والقانون الساري المفعول Lege lata , إلا أنه يستدعي بعض الملاحظات من زاوية القانون المرغوب فيه Lege ferenda هل ينبغي من زاوية السياسة العقابية القويمة، معاملة واضع اليد على مال الغير تحصيلا لدين عليه على قدم المساواة مع مختلس هذا المال بقصد الإثراء والاغتناء ؟
    لاشك أن الجواب عن هذا السؤال والذي يمكن استشفافه من خلال القراءة بين سطور الاجتهادات القضائية المستدل بها في الفقرات السابقة هوالنفي، على ما يبين من حرص هذه الاجتهادات جميعا على شمول أحكام الإدانة بإيقاف التنفيذ وبغيره من أسباب تخفيف العقاب. إلا أننا نعتقد مع ذلك أن الاختلاف بين الحالتين المومأ إليهما أكثر عمقا لكون الفارق بينهما فارقا في الطبيعة والجوهر وليس في الدرجة والمدى.
    إن المعيار السائد في الفقه والتشريعات الحديثة هوالذي يقوم على أساس اعتبار الحق أوالمصلحة المعتدى عليها أساس لتبويب القسم الخاص من القانون الجنائي، فالجرائم التي تقع اعتداء على مصلحة أومصالح تشترك في الخصائص والأحكام الأساسية تكون طائفة واحدة وتخضع لأحكام مشتركة، لأن وحدة الحق أوالمصلحة المعتدى عليها تنهض مبررا لإخضاع الجرائم المنتهكة لهذه المصلحة لأحكام مشتركة تجعل منها مجموعة قانونية متميزة عن غيرها من الجرائم (1).
    ويترتب على هذا النظر أن المصلحة المحمية جنائيا في جرائم السرقة، بمعناها الاعتيادي المألوف، مختلفة نوعيا عن المصلحة المشمولة بالحماية نفسها في حالة وضع اليد على مال الغير اقتضاء لحق، ودونما سعي نحوالاغتناء أوالربح ؛ فإذا كان قوام تلك المصلحة في الحالة الأولى حماية الذمة المالية (2) للفرد فإن جوهرها في الحالة الثانية منع الافتآت على الامتياز المقرر لفائدة السلطة القضائية.
    من هنا، كان تجريم الاعتداء في الحالة الأخيرة لا يمت إلى جرائم العدوان على المال إلا بأوهن الصلات، بينما تشده إلى طائفة الجرائم الماسة بحسن إدارة العدالة وشائج أعمق وأوثق.
    ولعل هذا الاعتبار هوالذي راعاه المشرعان الإيطالي والإسباني حينما نصا على جريمة ” ممارسة الفرد لحقه تعسفا ” في الباب المفرد لطائفة هذه الجرائم تحديدا، كما سبقت الإشارة.

  2. تعليق
    على قرار المجلس الأعلى 3062
    الصادر بتاريخ 4 أبريل 1985
    للأستاذ عبد الحفيظ بلقاضي

    لا شك أن وقائع القضية المعروضة على المجلس الأعلى، والتي صدر بشأنها القرار المشار إليه تمتاز بالبساطة الشديدة: أمام مطل المدين لم يجد الدائن بدا من الاستيلاء على جزء من أمواله المنقولة والمتمثلة في بضعة أكياس من القمح والشعير استيفاء للمبلغ الذي كان له عليه.
    وتعبيرا من المدين عن رفض ” الأمر الواقع ” الذي أريد فرضه عليه لم يتوان عن متابعة دائنه قضائيا على أساس جريمة السرقة.
    وكان هذا الاتهام محل تأييد تام من محكمة ابتدائية فاس التي استجابت لطلبات المشتكي قائلة: ” وحيث إن ما يبرر به المتهم أخذه الأكياس السبعة هورابطة المديونية لا تنفي عنه العنصر المعنوي الذي هوالنية الإجرامية…”.
    ثم صدر الحكم الاستئنافي مؤيدا لصك الاتهام ومؤاخذا العارض ” من أجل ارتكاب جنحة السرقة طبقا للفصل 505 من مجموعة القانون الجنائي بشهرين حبسا مشمولا بإيقاف التنفيذ ومائتي درهم غرامة وبتعويض مدني مع تعديل الحكم المستأنف بالرفع من مبلغ التعويض “.
    وكان مما ساقه قضاة الدرجة الثانية تبريرا لاجتهادهم أن الحكم الابتدائي كان ” معللا تعليلا قانونيا مستندا إلى وقائع القضية بالملف الأمر الذي يتعين معه تأييده في مبدئه لسلامته … ”
    بيد أن اجتهاد قضاة الموضوع هذا لم يجد صدى طيبا لدى نظرائهم في المجلس الأعلى الذين قرروا نقض الحكم المطعون فيه استنادا إلى أن ” الفصل 505 من مجموعة القانون الجنائي المعاقب بمقتضاه العارض يشترط في اختلاس المال المملوك للغير أن يكون عمدا وهوالقصد الخاص أي نية التملك للشيء، وأن أخذ الأكياس السبعة من أجل استيفاء الدين كما في النازلة الحالية لا يعتبر الفعل سرقة، وأن ما ذهبت إليه المحكمة يعتبر من قبيل فساد التعليل الموازي لانعدامه وخرقا لمقتضيات الفصل 505 المذكور أعلاه الشيء الذي يكون معه القرار ناقص التعليل وغير مرتكز على أساس صحيح من القانون “.
    وقبل تناول هذا الاجتهاد بما يليق به من تحليل ومناقشة نقدية، لا بأس من بعض الاستطراد لإبداء بعض الملاحظات ذات الطبيعة العامة والتي من شأنها تسليط الأضواء على أهمية المجال الذي صدر فيه، والذي يتمثل في جرائم الأموال عموما والسرقة بوجه خاص.
    ما فتئ الفقه الجنائي المعاصر1 يعير اعتبارا خاصا لهذه الطائفة من الجرائم مبرزا المكانة المتميزة التي تشغلها في منظومة القسم الخاص من القانون الجنائي. ولعل أهم ما يحرص الشراح على التنويه به في هذا النطاق كون فقه القانون الجنائي – بقسميه العام والخاص – إنما تحققت صياغته الفنية من خلال اعتماد تلك الطائفة من الجرائم بالذات، وبالدرجة العالية من الصقل والضبط المحكم التي بلغتها القواعد التي تنتظمها على يد القضاء، نموذجا للتحليل والاستدلال، اعتبارا لأهميتها البالغة سواء من الوجهة الاجتماعية أومن الوجهة الفنية البحتة.
    ولا أدل على هذا من تجريم السرقة والعقاب عليها، فيما عدا القليل النادر من الحالات، في كل زمان ومكان، ومن أن هذه الجريمة من أكثر الجرائم وقوعا، وأنها من الجرائم التي تعد دائما ذات خطورة خاصة.
    من هنا، كانت الدرجة العليا التي بلغتها تلك الطائفة، من الجرائم من حيث الصياغة الفنية سببا في اعتمادها – في أكثر الحالات – مثالا يحتدى بالنسبة لغيرها من النماذج القانونية للوقائع المجرمة جنائيا كلما دعت الحاجة إلى إنشاء الجديد منها أوتحليل القائم منها فعلا.
    وإذا كان الأمر كذلك على الصعيد المقارن، فإلى أي حد يمكن اعتبار قضاء المجلس الأعلى، من خلال القرار الذي نحن بصدده، إسهاما إيجابيا في بناء صرح إحدى النظريات الهامة في جرائم الأموال، ألا وهي نظرية القصد الجنائي في جريمة السرقة ؟
    يتضح من الرجوع إلى مضمون هذا القرار وفحص أسبابه وحيثياته أنه صدر خلوا من كل سند قانوني يصلح أساسا لما قضى به من اجتهاد؛ ومعنى ذلك، بعبارة أخرى، أن قضاة النقض إنما التزموا هنا موقفا سلبيا محضا بحيث لم يجشموا أنفسهم، عند تقرير المبدأ القانوني المشار إليه، عناء مناقشة الأسباب التي تذرع بها قضاة الموضوع أوالرد عليها.
    وهذه الأسباب التي استنكف المجلس الأعلى عن الخوض فيها يجمع بينها أساس واحد يتأتى – في تقديرنا – في تحديد المركز القانوني الصحيح للدائن ( الفرع الأول )؛ فإذا صح لدينا أن المقدمات التي اعتمدها قضاة النقض منطلقا وأساسا في الاستدلال لم تسلم من شائبة الفساد، لن يكون غريبا أن تنتقل عدوى هذه الشائبة نفسها إلى النتيجة التي انتهى إليها القرار، على ما ينم بجلاء تام الاعتداد بالباعث كعنصر في تكوين القصد الجنائي في السرقة (الفرع الثاني).
    الفرع الأول
    تحديد المركز القانوني للدائن
    إن وضع القرار الذي بين أيدينا على محك القواعد القانونية الواجبة التطبيق على موضوع النزاع لا بد أن يفضي بنا إلى القول بأن ما جاء به من اجتهاد إنما يقف على طرفي نقيض من قاعدتين أصوليتين في القانون: تكتسي إحداهما صبغة موضوعية وتقضي باعتبار مال المدين مجرد ضمان عام للدائن (أولا) ؛ وتتخذ الثانية طابعا إجرائيا وتقضي بعدم جواز اقتضاء الحقوق بالوسائل الخاصة (ثانيا). ولا يخلوموقف المجلس الأعلى من مفارقة في الحالين معا، وذلك بسبب إنكاره للقاعدة الأولى التي ورد النص عليها صراحة في صلب القانون، وبسبب تنكره للقاعدة الثانية التي، وإن لم يشملها المشرع بنص صريح، لا تقل عن الأولى استقرارا ورسوخا في الوجدان القانوني.
    أولا: حق الضمان العام المقرر للدائن لا يخول الاستيلاء على أموال المدين.
    من المتفق عليه في فقه القانون المدني أن مال المدين ليس مالا مملوكا لدائنه ؛ وأن كل ما للثاني على أموال الأول هومجرد حق الضمان العام Droit de gage général.
    وهذه القاعدة الثابتة في مجمل النظم المقارنة 1هي التي نص عليها المشرع المغربي صراحة في صلب قانون الالتزامات والعقود ( م. 1241 ) 2.
    وبناء على هذا الحق يؤمن الدائن الحصول من أموال مدينه على التعويض المستحق له أوعلى النفقات التي يتحمل بها المدين في حالة القيام بتنفيذ الالتزام على نفقته.
    ويحرص فقهاء القانون المدني 1 على إبراز الخصائص المميزة لهذا الحق والتي تتمثل في كون الضمان العام يرد – كأصل عام – على جميع أموال المدين، وفي كونه يتساوى فيه جميع الدائنين، وفي أنه، خلافا للضمان الخاص، لا يخول حق التتبع. بيد أن أهم خاصية يتسم بها حق الضمان العام والتي تمت إلى الموضوع الذي نحن بصدده بصلة مباشرة إنما تتحصل في كونه لا يغل يد المدين: ” لما كان الضمان العام لا يرد على مال معين من أموال المدين، وإنما على ما يكون له من أموال وقت التنفيذ، فإنه لا يغل يد المدين في التصرف في أمواله وإدارتها، ولا يخول للدائن حق التدخل في إدارة المدين لأمواله، فطالما لم تتخذ إجراءات التنفيذ يظل المدين محتفظا بحقوقه كاملة على أمواله من حيث الإدارة والتصرف “2.
    من هنا، لا يصح الاستناد إلى حق الضمان العام المقرر للدائن على جميع أموال مدينه للقول بانتفاء القصد الجنائي لدى هذا الدائن إذا ما تطاول واختلس جزءا منها، كما يذهب إلى ذلك القرار الذي نحن بصدده: إن غاية ما لهذا الدائن هوحق شخصي في ذمة المدين لا على شيء بعينه. ومعنى هذا، بعبارة أخرى، هوعدم تمتع الدائن بأي حق مباشر على جزء معين من أموال مدينة قبل استصدار قرار توقيع الحجز عليها1.
    وينبني على هذا التحليل أن استيلاء الدائن على أموال مدينه – في الحالة المعروضة على أنظار المجلس الأعلى – ليس إلا استيلاء على مال مملوك للغير تحقق به جريمة السرقة المعاقب عليها قانونا. وكان هذا التعليل هوالذي سيق سندا للحكم الابتدائي (المؤيد استئنافيا) حينما برر قضاة الموضوع الإدانة من أجل السرقة بالقول: ” وحيث إن ما يبرر به المتهم أخذ الأكياس السبعة وهورابطة المديونية لا تنفي عنه العنصر المعنوي الذي هوالنية الإجرامية “.
    ثانيا: عدم جواز اقتضاء الحقوق بالوسائل الخاصة.
    من المعلوم أن القانون لا يمكنه أن يؤدي وظيفته الاجتماعية إلا من خلال تحديد مضمون الحقوق المعترف بها ونطاقها الصحيح، من جهة، وتعيين الوسائل التي تمكن من الوصول إلى هذه الحقوق من جهة أخرى، ولن تكون هذه الوسائل في خدمة القانون إلا إذا كانت جميعها وسائل مشروعة. Moyens légaux، أي منظمة بواسطة القانون ” فقد ولى العهد الذي كان الإنسان يحتكم فيه إلى قوته الذاتية للاقتصاص من خصمه أولاقتضاء حقه لنفسه بنفسه”2، وأصبح إحقاق الحق من المهام التي تتولاها الدولة، وأضحى تنظيم العدالة وتنظيم اللجوء إليها عنوانا للمجتمع المتمدن.
    من هنا، القاعدة الراسخة في الوعي القانوني والجارية مجرى الأمثال: لا يجوز لأحد اقتضاء حقه بنفسه nul ne peut se faire justice à soi même.
    وهي من القواعد التي ” تبرر نفسها بنفسها” (1)، والتي يتعين العمل بمقتضاها ولولم يرد بشأنها أي نص صريح (2)، وذلك تحسبا لما يؤدي إليه اللجوء إلى العدالة الخاصة من عواقب وخيمة بالنسبة للضعفاء، وتفاديا لما يحدثه اللجوء إلى هذه الوسيلة من اضطراب اجتماعي خطير، فضلا عما يفضي إليه ذلك – في نهاية المطاف – من إنكار للعدالة نفسها (3).
    من هنا، كان حرص المشرع الوضعي في الأنظمة المعاصرة على شمول محتوى هذه القاعدة بالحماية القانونية، وذلك إما بالعقاب على مخالفتها في حالات محددة بموجب نصوص تجريمية خاصة، كما هوالحال في القانون الجنائي الإيطالي (4) ( م. 393-392 ) والإسباني (5) الجديد لعام 1995 (م 455) ؛ وإما بفرض احترامها من خلال تطبيق القواعد العامة في القانون الجنائي، كما هوالحال في القانون الفرنسي والقوانين الواقعة تحت هيمنة مدونة ” نابليون ” الجنائية (6).
    وترتيبا على ذلك يصبح الدين أيا كانت قيمته غير قابل للاقتضاء إلا بالطرق التي حددها القانون، مما يجعل من غير الجائز للدائن أن يستولي على مال مملوك للغير استيفاء لحقه دون أن يتقرر له أخذ هذا المال بالطرق المنظمة قانونا.
    إن مثل هذا الدائن مثل صاحب الحق غير المنازع فيه والذي يعمد إلى ممارسته وفق الغرض المحدد له قانونا، ولكن دون اللجوء إلى العدالة مكتفيا باستعمال وسائله الخاصة، كالوارث الذي يعثر على سند يثبت أن حقه في العقار يزيد عما كان مقررا حسب تقديره السابق فيلجأ إلى تغيير حدود نصيبه في الميراث أوصاحب الحق الذي يقوم بإزالة الحواجز التي تعترض حقه في المرور من غير استصدار حكم قضائي يخول له هذا الارتفاق (1). صحيح أن المالك لم يزد هنا شيئا عما كان يتعين على المحكمة القيام به، إلا أن عمله يشكل – في ذاته – افتأتا على الامتياز المقرر للسلطة القضائية مما يستوجب العقاب بغض النظر عن كل اعتبار يتعلق بجوهر الحق نفسه.
    وإذا كان صحيحا أيضا أن الباعث الذي دفع المتهم إلى ارتكاب الفعل في سائر هذه الأحوال باعث مشروع، فما مدى تأثير هذا العنصر في تكوين القصد الجنائي ؟

    الفرع الثاني
    الباعث المشروع لا ينفى القصد الجنائي في السرقة
    درج الفقه والقضاء على اعتبار النموذج القانوني للجريمة متحققا في السرقة باجتماع ركنين أساسيين:
    ركن مادي قوامه فعلا الاختلاس، وركن معنوي مؤداه القصد الجنائي الذي يتضمن نية التملك.
    وإذا كان ثمة خلاف بشأن القصد الخاص dolus specialis ومدى اعتباره عنصرا أساسيا في الركن المعنوي للجريمة أومجرد عنصر يفترضه فعل الاختلاس ذاته، فإن من المسلم به سواء بين جمهور الفقهاء ( أولا ) أوبين الاتجاه السائد في القضاء الجنائي المقارن (ثانيا) أنه لا عبرة بالباعث Mobile الذي دفع صاحبه إلى ارتكاب الفعل لوقوعه خارج العناصر المؤسسة للقصد الجنائي.
    أولا: موقف الفقه.
    كثيرا ما يعني شراح القانون الجنائي (1) حينما ينبرون للركن المعنوي للجرائم العمدية بالشرح والتحليل بالتشديد على أهمية التمييز بين كل من ” الغرض ” و” الغاية “، و” الباعث ” و” القصد الجنائي ” من جهة أخرى.
    إلا أن هذا الحيز يضيق بنا حتما عند التصدي لهذا الموضوع بكل ما يليق به من إسهاب مما لا نجد معه بدا من الاجتزاء بالإشارة إلى بعض المفاهيم الأساسية.
    لئن كان القصد الجنائي متحققا بثبوت اتجاه إرادة الفاعل إلى ارتكاب الفعل المكون للجريمة وإلى إحداث النتيجة التي يعاقب عليها القانون في هذه الجريمة، فإن الاختلاف بين الغرض But intermédiaire ou direct والغاية But final
    يرتد إلى كون الأول هدفا قريبا للإدارة، وإلى كون الثاني هدفا أخيرا لها(1) ؛ أما الباعث Mobile فهوتصور الغاية، أوهوفي عبارة أخرى، السبب الدافع إلى إشباع الحاجة، أوهونشاط نفسي يتعلق بالغاية ولا شأن له بالغرض.
    وتطبيق هذا النموذج في التحليل على السرقة يفضي بنا إلى القول إن الاستيلاء على المال وتملكه هوالغرض الذي يستهدفه النشاط الإرادي، والإرادة المتجهة إلى الاستيلاء والتملك هي القصد الجنائي، وإشباع الحاجة الشديدة إلى المال أوالرغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال الاستيلاء على أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء(2) ( مثلا ) هي الغاية، والدافع النفسي إلى إشباع الحاجة أوالرغبة هوالباعث(3).
    ولكن، ” هل يكتسي أهمية ما – كما يقول Garraud -أن يصدر التصرف بدافع شرير بحت أوبقصد الإثراء ومن أجل أن يدر صاحبه من الشيء المختلس نفعا ؟ “. يجيب الفقيه الفرنسي عن هذا التساؤل قائلا: ” إن الباعث الذي يحدوبالجاني إلى ارتكاب الفعل إنما يقع وقوعا غير مؤثر على المسؤولية الجنائية ؛ أما العنصر الوحيد الذي يحظى بالاعتبار ويستدعي التحري والتقرير فيتحصل في النية التي يعقدها الفاعل على تملك الشيء عالما بكونه غير مملوك له، وأنه ليس من الأموال المباحة أوالمتروكة، وذلك ضدا على إرادة المالك، ومع الحرص على الظهور على هذا الشيء بمظهر المالك نفسه” (1).

    ويمضي الفقه الجنائي الفرنسي المعاصر(2) في الاتجاه نفسه مؤكدا أن من الكفاية بمكان توافر نية تملك مال الغير
    animus domini لقيام القصد الجنائي لدى المختلس، ودونما ضرورة لتحقق قصد الإثراء(3) animus lucri لديه.
    وإذا كان الأصل أن يكون الباعث الدافع إلى السرقة هوالإثراء وتحقيق غاية غير مشروعة، فإن مما لا يحول دون اكتمال مقومات الجريمة أن تتخذ هذه الغاية وذلك الباعث صبغة أخرى، ومما يدخل في هذا القبيل: أن يرمي الجاني إلى استرداد مال يعتقد أن الغير قد استولى عليه بطريق غير مشروع، كأن يحاول الخاسر أن يسترد المال الذي خسره في لعب القمار ؛ أوأن يسعى المتهم إلى استيفاء دين له على المجني عليه كالمكري الذي يختلس محصول العين المكراة أوبعض المنقولات المملوكة للمكتري وفاء للأجرة ؛ كما يدخل في هذا القبيل أيضا الخادم الذي يختلس متاعا لسيده نظير ما بقي له من أجر(1).
    نخلص من ذلك كله إلى أن المبدأ المستقر في التشريعات الجنائية الحديثة هوعدم الاعتداء بالباعث الدافع إلى ارتكاب الجريمة، وعدم الالتفات إلى الغاية المستهدفة منها، لوقوعهما معا خارج العناصر المكونة للقصد الجنائي، وبالتالي، فإنهما لا ينفيانه وإن كانا نبيلين أومشروعين(2).
    بل إن جانبا من هذه التشريعات ينص صراحة على أنه ” لا عبرة بالباعث أوالغاية من قيام العمد أوالخطأ إلا في الأحوال التي ينص عليها القانون”(3).
    وهذا المبدأ المستقر فقهيا والمكرس تشريعيا – في بعض الأحيان – هوالذي درج القضاء على التقيد به في المجال الذي نحن بصدده تحديدا.
    ثانيا: موقف القضاء
    جاء في أحد أقدم قرارات محكمة النقض الفرنسية ” أن الدين لا يصلح سندا لإضفاء المشروعية على السرقة ”
    “Attendu qu’une créance ne peut légitimer un vol(1).
    وهذا الاجتهاد الذي أخذ به القضاء الفرنسي منذ بداية القرن التاسع عشر هوالذي تواتر عليه في قراراته اللاحقة – فيما عدا القليل النادر من الحالات الشاذة والمعزولة(2).
    وعديدة هي الأمثلة التطبيقية لهذا الموقف الاجتهادي، منها على سبيل المثال.
    – ” يعتبر استيلاء الدائن على شيء مملوك لمدينه سرقة معاقبا عليها قانونا متى قام الدليل على اقتران فعل المختلس بنية الغش”(3).
    – ومنها أيضا: ” … يتعين عدم الخلط من الناحية القانونية بين النية الإجرامية ومجرد الباعث: لئن كانت الأولى تتأتى في إرادة الاستيلاء على مال مملوك للفاعل، فإن الثاني لا يعدوكونه الرغبة والشعور الحافزين على تحقيق الفعل المجرم قانونا، مما يجعل تأثيره منحصرا في تخفيف العقاب” (4).
    – وكذلك أيضا: “من يستولي على أشياء منقولة ويعمد إلى إتلافها، مع علمه بكونها غير مملوكة له، يكون متسلطا على هذه الأموال دون وجه حق، ومقترفا لاختلاس مشوب بنية الغش ؛ ولا يعتد ببواعثه إلا من حيث تطبيق العقاب” (1).
    كما ظل القضاء الفرنسي وفيا لتقليده الاجتهادي في هذا المضمار من حيث عدم الاعتداد بالباعث في تكوين القصد الجنائي لدى المختلس حتى في بعض أحدث قراراته. وهوما يتجلى – بوجه خاص – في قضية تتلخص وقائعها في أن إدارة متحف ” اللوفر ” رفضت تجديد العقد الذي كان موظف منتدب لديها يعمل بمقتضاه رئيسا للمصلحة المكلفة بالحراسة ؛ وهوما أثار أشد الغيظ لدى الموظف الذي لم يتورع عن الاستيلاء على سبع من اللوحات الفنية التي كانت مودعة في قاعة محفوظات المتحف، إشارة منه إلى مدى الفراغ الذي خلفه قرار الاستغناء عن خدماته التي بدونها لن يعرف الأمن في ربوع المتحف استتبابا ! ولكنه، للتدليل على عدم اتجاه نيته إلى الاستئثار بملكية تلك اللوحات قام – بعد وضع يده عليها – بإرسالها فورا إلى القائمين على تحرير إحدى المجلات الأسبوعية (Minute) سعيا وراء تسليط الأضواء على مدى الخلل الذي أصبح يعتري النظام المتبع في حراسة المتحف.
    بيد أن هذه الأسباب جميعا لم تثن محكمة باريس المرفوع أمامها أمر النظر في هذه القضية عن تقرير إدانة المتهم عن جريمة السرقة ومعاقبته بسنة ونصف حبسا مع إيقاف التنفيذ والمنع من مزاولة الوظيفة العمومية لمدة خمس سنوات، دونما اعتبار للباعث المحرك على ارتكاب الفعل والذي لم يكن إلا ” الرغبة في الإضرار أوالاستجابة للشعور بالانتقام ( 2 ): Le désir de nuire ou de satisfaire un sentiment de vengeance”.
    وفي قرار صادر عن محكمة النقض الفرنسية، في السنوات الأخيرة، حسما لنزاع يتفق – من حيث ما يثيره من إشكال قانوني – اتفاقا تاما مع النزاع الذي تصدى له المجلس الأعلى في القرار المشار إليه، لم تشذ الغرامة الجنائية بهذه المحكمة عن تقليدها القديم. وتتلخص وقائع القضية المعروضة على هذه الأخيرة في أن جماعة من العمال الغابويين قرروا – بعد خوضهم إضرابا دام شهرين – استئناف عملهم من أجل الحصول على المستحقات التي حرموا منها. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، اتفقوا فيما بينهم – ودونما استئذان لرب عملهم – على طرح كمية من الأخشاب المملوكة لصاحب المعمل للبيع من أجل تقاسم عائدها فيما بينهم كمقابل لأجورهم المستحقة وتسليم الباقي إلى رب العمل. إلا أن المحكمة العليا الفرنسية لم تعبث بهذا الباعث ” المشروع” وقررت إدانة المتهمين من أجل السرقة طالما كان ثابتا وقوع الاختلاس على شيء مملوك للغير بنية تملكه (1)
    خاتمة :
    يتبين من مجمل الشواهد الفقهية والقضائية (2) التي عرضنا لها في الفقرات السابقة أن الوصف القانوني لا يتأثر بالباعث الدافع إلى الفعل، فوضع اليد على مال الغير بدافع الانتقام أولتحصيل دين للفاعل أوللتخلص من رسائل محرجة يحتفظ بها المالك تهديدا للفاعل (1) لا يغير من وصف الجريمة المرتكبة مساسا بمال الغير سرقة كانت أم نصبا(2).
    وهذا الموقف الذي لا يخلومن صرامة وتشدد ينسجم تماما مع النظرية القانونية الموسعة من مفهوم الاختلاس التي كان لقضاء النقض الفرنسي الفضل الأكبر في رسم معالمها. (3)
    بيد أن هذا الموقف الاجتهادي، وإن كان يتفق والقانون الساري المفعول Lege lata , إلا أنه يستدعي بعض الملاحظات من زاوية القانون المرغوب فيه Lege ferenda هل ينبغي من زاوية السياسة العقابية القويمة، معاملة واضع اليد على مال الغير تحصيلا لدين عليه على قدم المساواة مع مختلس هذا المال بقصد الإثراء والاغتناء ؟
    لاشك أن الجواب عن هذا السؤال والذي يمكن استشفافه من خلال القراءة بين سطور الاجتهادات القضائية المستدل بها في الفقرات السابقة هوالنفي، على ما يبين من حرص هذه الاجتهادات جميعا على شمول أحكام الإدانة بإيقاف التنفيذ وبغيره من أسباب تخفيف العقاب. إلا أننا نعتقد مع ذلك أن الاختلاف بين الحالتين المومأ إليهما أكثر عمقا لكون الفارق بينهما فارقا في الطبيعة والجوهر وليس في الدرجة والمدى.
    إن المعيار السائد في الفقه والتشريعات الحديثة هوالذي يقوم على أساس اعتبار الحق أوالمصلحة المعتدى عليها أساس لتبويب القسم الخاص من القانون الجنائي، فالجرائم التي تقع اعتداء على مصلحة أومصالح تشترك في الخصائص والأحكام الأساسية تكون طائفة واحدة وتخضع لأحكام مشتركة، لأن وحدة الحق أوالمصلحة المعتدى عليها تنهض مبررا لإخضاع الجرائم المنتهكة لهذه المصلحة لأحكام مشتركة تجعل منها مجموعة قانونية متميزة عن غيرها من الجرائم (1).
    ويترتب على هذا النظر أن المصلحة المحمية جنائيا في جرائم السرقة، بمعناها الاعتيادي المألوف، مختلفة نوعيا عن المصلحة المشمولة بالحماية نفسها في حالة وضع اليد على مال الغير اقتضاء لحق، ودونما سعي نحوالاغتناء أوالربح ؛ فإذا كان قوام تلك المصلحة في الحالة الأولى حماية الذمة المالية (2) للفرد فإن جوهرها في الحالة الثانية منع الافتآت على الامتياز المقرر لفائدة السلطة القضائية.
    من هنا، كان تجريم الاعتداء في الحالة الأخيرة لا يمت إلى جرائم العدوان على المال إلا بأوهن الصلات، بينما تشده إلى طائفة الجرائم الماسة بحسن إدارة العدالة وشائج أعمق وأوثق.
    ولعل هذا الاعتبار هوالذي راعاه المشرعان الإيطالي والإسباني حينما نصا على جريمة ” ممارسة الفرد لحقه تعسفا ” في الباب المفرد لطائفة هذه الجرائم تحديدا، كما سبقت الإشارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *