مشروعية الممارسة السائدة حول “رهن المنازل”.
عبد العلي حفيظ.
قاض بالمحكمة الإبتدائية بإمنتانوت.
إن ضغط الاحتياجات الاجتماعية وتنوعها غالبا ما تفضي بالحرية التعاقدية المحمية بقاعدة العقد شريعة المتعاقدين إلى خلق ممارسات تعاقدية تستهدف توفير أحسن السبل لتلبية هذه الحاجات، وحرية الإرادة في سعيها الحثيث هذا قد تبقى عند حدود الضوابط القانونية الآمرة في النظام القانوني السائد، وقد تتحايل عليها لاعتبارات مختلفة.
ومن أهم هذه الممارسات التعاقدية التي أخذت بعدا واسعا وطابعا مستقرا في العديد من مدن المملكة، بل وجرت مجرى العرف في اعتقاد الكثيرين، ما يمكن تسميته ب”رهن المنازل” ومؤدى هذه الممارسة هو قيام مالك عقار بإسكان شخص معين بمنزله مقابل قيام هذا الأخير بإقراضه مبلغا معينا، وأداء كراء رمزي أو بدون أدائه، مع التزامه بإفراغ المحل بمجرد انتهاء المدة المحددة وحصوله على مبلغ القرض.
وتعتبر هذه الممارسة نتاجا لضغط الأزمة السكنية في بلادنا وعزوف مالكي العقارات عن تخصيصها للكراء السكني خوفا من التحمل بالإجراءات القانونية التي فرضها المشرع لإنهاء العلاقة الكرائية حفاظا على استقرار المكتري بالعين المكتراة، وكذلك هروبا من تحمل تبعات تملص المكترين من أداء الوجيبة الكرائية، لذلك فهي حاولت أن تؤسس لحل وسط بين هذين الهاجسين الواقعي والقانوني، بإبعاد معوقات الثنائية الحادة بين المكري والمكتري وهي الأداء/الإفراغ، لذلك فإن هذه الممارسة تبرز من جهة “المكري –المقترض” كضمان لأداء الوجيبة الكرائية التي حتى مع رمزيتها تظل مهمة، وكوسيلة للتخلص من الإجراءات القانونية الآمرة لإنهاء الكراء السكني، الذي ينقضي وفق هذه الممارسة بمجرد انتهاء المدة المتفق عليها وإرجاع مبلغ القرض، دون حاجة إلى توجيه إنذار مسبب، وتصحيحه عند الاقتضاء وفق ما يستوجبه ظهير 25/12/1980 المنظم للكراء السكني والمهني،وكتمويل مالي يحصل بمقتضاه المالك على رأسمال معين، قد يوظف في استثمار مالي أو حتى في تهيئة العقار نفسه والرفع من قيمته الكرائية، أما من جهة المقرض – المكتري فإنها تشكل تدبيرا ماليا لمواجهة هاجس توفير غطاء مالي شهري يستغرق جزء مهما من الدخل أو الكسب المهني أو الأجر، حيث يستفيد من الفرق بين السومتين الحقيقية للمحل والمؤداة فعليا، كما يحتفظ برأسمال معين بيد المكري – المقترض، قد يوظف كتسبيق لشراء سكن اقتصادي مثلا.
أما من زاوية التكييف القانوني لهذه الصورة التعاقدية، فإنها تثير إشكالا قانونيا واضحا ينجم عن التطبيق الانتقائي لأحكام متنوعة لعقود مختلفة، من أجل تحديد العلاقة بين طرفي العقد، فهل الأمر يتعلق بعقد كراء لمحل سكني، وبالتالي ما مدى مشروعية ذلك الأداء المالي المسبق؟ أم برهن حيازي خصصت فيه العين المكتراة لضمان أداء مبلغ القرض، وهنا يطرح التساؤل حول الأساس القانوني لانتفاع المرتهن حيازيا بسكنى المحل، وألا يقوم ذلك الانتفاع مقام الفائدة في القرض, خاصة وأنه مترتب عن عقد سلف خالص وليس عن معاملة أخرى وفق ما سنوضحه لاحقا؟ أم أن الأمر يتعلق بعقدين منفصلين بينهما شبهة اتصال، وهما عقد قرض على وجه البر والإحسان وعقد كراء لمحل سكني، ومن ثم هل تعتبر السومة الكرائية الزهيدة أو عدم وجود بدل أصلا ووجود علاقة قرض بين نفس طرفي العلاقة الكرائية دليلا أو قرينة على ثبوت القرض بفائدة؟ وتبعا لذلك أعتقد بأن هذه الممارسة – حينما تفرض للنظر القضائي –تبقى مسألة تكييف ترتبط بدراسة كل عقد على حدة، من أجل تمييز السند القانوني لاعتمار “المقرض-المكتري” للمحل السكني، هل هو عقد الكراء، أم عقد الرهن، والتأكد من توافر موجبات ذلك، من خلال سعي كل طرف إلى نفي ما يحاول الطرف الآخر إثباته كسند قانوني للتواجد بالمحل،خاصة وأن أهم النزاعات القانونية التي تثيرها هذه الممارسة ترتبط بإفراغ المحل، وذلك عندما يطلب”المقترض-المكري” من “المقرض –المكتري” إفراغ المحل فيمتنع هذا الأخير إما لعدم تمكينه من مبلغ القرض، وإما لمجرد المساومة وبسوء نية.
وهكذا فإن هذه الصورة التعاقدية ونظرا لكونها تتأسس على تداخل أحكام قانونية مختلفة (الكراء، الرهن الحيازي، القرض)، ومادمنا – وهذا هو المهم –نفتقر إلى دراسة قانونية معمقة بخصوص أصول هذه الممارسة، وهل فعلا تستجيب لمقومات العرف أم لا، فإننا سنقيم مشروعيتها باعتبارها من قبيل الممارسة السائدة لا العرف المستقر، وذلك على ضوء الأحكام الآمرة للعقود التي تلتبس بها.
وإسهاما منا في النقاش حول مشروعية هذه الممارسة الشائعة، وسعيا وراء تناول عملي لهذا الموضوع البكر، واعتبارا لكون مناط تقييم هذه الممارسة يرتبط بتكييف العقود السائدة لهذه الممارسة، فقد آثرنا أن نعرض لذلك من خلال الصورتين العمليتين اللتان يمكن أن تتمظهر فيهما هذه الممارسة، إما تصريحا بتضمين كل خصائص هذه الممارسة في عقد واحد (وهو الأمر النادر) (أولا) أو تلميحا عبر إبرام عقدين مستقلين أحدهما يخص الكراء والآخر يتعلق بالقرض من أجل تفادي التعارض مع قواعد قانونية ملزمة (وهذا هو الأمر السائد) (ثانيا).
الصورة الأولى: وحدة العقد:
وهي أن نكون إزاء عقد واحد يتضمن القرض والكراء، حيث ينص فيه على تخويل الدائن حق الاستفادة من منفعة العقار المرهون مقابل القرض المقدم لمالك العقار، وعلى أن “المكتري” يلتزم برد العين بمجرد حصوله على مبلغ القرض، وفي هذه الصورة لا يسعنا أمام صراحة النصوص إلا اعتبار هذه الممارسة بمثابة قرض ينطوي على اشتراط ضمني للفائدة اتخذ شكل نفع أنجز لفائدة الدائن، والمتمثل في سكنى الدار بدون مقابل أو بمقابل زهيد جدا لا يتناسب بتاتا والقيمة الإيجارية للمحل المكتري، وذلك وفق ما ينص عليه الفصل 870 من ق.ل.ع الذي ينص على أن اشتراط الفائدة بين المسلمين باطل ومبطل للعقد الذي يتضمنه سواء جاء صريحا أو اتخذ شكل هدية أو أي نفع آخر للمقرض أو لأي شخص آخر يتخذه وسيطا”، إلا أن الملفت في هذه الصورة من القرض أن اشتراط الفائدة لا يتم بإملاء من المقرض وإنما بإيعاز من طرف المقترض (المكري) وباشتراط منه، إلا أن هذه الخصوصية لا تأثير لها على قيام القرض بفائدة لتحقق شروطه (وجود عقد سلف وتحقق نفع زائد على الرأسمال لفائدة المقرض).
ونفس الحكم أعلاه يبقى مستساغا في الحالة التي يثبت من خلالها أن التواجد بالمحل كان على أساس هذا النوع من “الرهن”، وفي هذا الصدد فقد ذهبت محكمة الاستئناف بمراكش في قرارها رقم 432 في الملف عدد 998/87 الصادر بتاريخ 11 فبراير 1998 (1)الحيثياتالتالية:
“حيث يهدف المدعي إلى الحكم ببطلان العقد الرابط بينه وبين المدعى عليه وبأدائه له للتعويض المناسب عن الاحتلال.
وحيث إنه بالرجوع إلى وثائق الملف وخصوصا محضر المشاهدة المنجز من طرف مأمور الإجراء بتاريخ:28/03/86 تحت عدد:120/86 يتضح أن المدعى عليه صرح للمأمور بأنه يتواجد بالسفلي موضوع النزاع على وجه الرهن ولا يؤدي عنه أي كراء للمدعي.
وحيث إنه إذا كان المدعى عليه قد أدلى بوصولات صادرة عن المدعي لإثبات العلاقة الكرائية فإن العبرة بالعقد الظاهر وهو عقد الرهن وليس العقد الصوري أو الخفي والمنصب علىالكراء(2).
وحيث إن القرار الاستعجالي المستدل به من طرف المدعى عليه لم ينظر في موضوع العلاقة الكرائية، وإنما بت في إجراء وقفي وهو إرجاع الكهرباء إلى المحل المعتمر من قبل المدعى عليه.
وحيث إنه وإن كان المدعي قد وجه إنذارا بأداء الكراء والإفراغ للمدعى عليه، فإن هذا الإنذار قد وجه خلال فترة المنازعة القائمة بينهما حول العلاقة الرابطة بينهما هل هي كراء أم رهن؟……
وحيث إن المدعى عليه في المحل موضوع النزاع كان مقابل إقراضه للمدعي مبلغا ماليا، ويعتبر بالتالي هذا القرض من قبل السلف الذي يجر نفعا، أي ما يعبر عنه بالقرض بالفائدة.
وحيث إنه بموجب الفصل 870 من ق.ل.ع فإن اشتراط الفائدة بين المسلمين باطل ومبطل للعقد الذي تضمنه سواء عبر عن ذلك بصفة مريحة أو اتخذ شكل هدية أو أي نفع آخر للمقرض.
وحيث إنه من الثابت أن المدعى عليه اعتمر منزل المدعي بكيفية غير قانونية مما يتعين تعويضه عن هذا الاحتلال الغير المشروع ولقد اقترح الخبير المنتدب تحديد هذا التعويض في مبلغ 370 درهم في الشهر……”.
وجدير بالذكر أن موقف المحكمة الابتدائية ذهب في اتجاه مشروعية تواجد المدعى عليه بالمحل اعتمادا على ثبوت العلاقة الكرائية من خلال وصولات الكراء المدلى بها.
ويستشف من حيثيات هذا القرار مدى سوء نية المالك، الذي قام برفع دعوى بطلان العقد متنكرا لمقتضيات الاتفاق القائم بينه وبين المقرض، مما يوفر لهذا النوع من المتعاقدين وسيلة قانونية للاغتناء غير المشروع في حالة شيوع هذه الممارسة، وخاصة في حالة عدم إبرام عقد كراء مستقل عن عقد القرض، حيث يعمد المالك بعد الحصول على مبلغ القرض وإبرام عقد بذلك لمدة محددة، إلى رفع دعوى بإفراغ المقرض من المحل بعلة الاحتلال بدون سند، مع تعويضه عن الحرمان من الاستغلال طيلة مدة إقامته بالمحل، وهذا ما يعكس بوضوح الوجه غير المشروع في هذه الممارسة.
أما بخصوص علاقة هذه الممارسة بأحكام الرهن الحيازي وذلك باعتبار أن حيازة”المكتري” للمحل يكون كضمان للقرض الممنوح للمالك، فإنه يظل محكوما بنفس الوصف القانوني أعلاه باعتباره قرضا بفائدة وذلك تطبيقا للفصل 877 من ق.ل.ع الذي ينص على أن “الرهن الحيازي الذي يضمن دينا ناشئا عن قرض، لا يجوز للأطراف أن يتفقوا فيه على أن يأخذ المرتهن من غلة الشيء المرهون (سكنى المنزل في حالتنا) إلا ما لا يتجاوز قيمة الحد الأقصى للفائدة المحددة سنويا بظهير خاص” وذلك في الحالة التي يجوز فيها اشتراط الفائدة فقط، كما إذا كانت المعاملة جارية بين تاجرين، ولا أظن أن مجموع القيمة الإيجارية السنوية للعقارات محل هذه الممارسة تدر مقابل انتفاع يكون فقط في حدود سعر الفائدة السنوي الجاري، كما أن الغالب هو انحصار وجه الانتفاع بتلك العقارات في السكنى فقط، مما يخرجها من دائرة العمل التجاري، وتقع تحت طائلة الحظر القانوني لاشتراط القانوني.
فباعتبار هذه الممارسة بمثابة رهن حيازي، يثير موضوع الانتفاع بالرهن، وحالات مشروعية انتفاع الدائن المرتهن بالشيء محل الرهن، وهو سكنى الدار في ضوء هذه الممارسة، ولقد ذهب المشرع المغربي إلى تمكين المرتهن من أحد ثمار الشيء المرهون على رأسمال الدين المضمون، ما عدا إذا وقع الاتفاق بين الطرفين في عقد الرهن على تخصيص الثمار كلها أو بعضها للمرتهن فيحتفظ بها كلها، وكل ذلك مشروط بعدم ترتب الرهن على عقد سلف خالص كما هو الحال في هذه الصورة التعاقدية مراعاة لأحكام الفصل 870 من ق.ل.ع السالف الذكر، وفي هذا الصدد ينص الفصل 1200 من ق.ل.ع على أنه “يمتد الرهن بقوة القانون إلى الثمار والتوابع التي تلحق بالشيء المرهون في الفترة التي يكون خلالها في يد الدائن…وكل ذلك ما لم يوجد اتفاق يقضي بخلاف ذلك” كما نص الفصل 101 من ظهير 2 يونيو 1915 المحدد للتشريع المطبق على العقارات المحفظة على أنه”لا يكتسب الدائن بهذا العقد إلا إمكانية أخذ ثمار العقار، ولا يجوز أن ينتج الدين فوائد، غير أنه يمكن التنصيص على أن الثمار تكون كلها أو بعضها من نصيب الدائن، وعلى الدائن أن يخصم سنويا من رأسمال الدين قيمة الثمار التي حازها.
والملاحظ أن الفقه الإسلامي يقر نفس الحل أعلاه في إطار ما أسموه ب”رهن المنفعة”، حيث نجد الفقيه محمد العلوي العابدي يعرف هذا النوع من الرهن بقوله:”رهن المنفعة هو أن يرهن المدين دارا مثلا ويشترط الدائن المرتهن أن يستغل لنفسه الدار المرهونة أو غيرها إلى أن يؤدي له دينه فيرد له داره، فيكون المرتهن قد استفاد الاستغلال في تلك المدة، وهو حائز بشروط:
1-أن يكون الدين قد نشأ عن شيء غير سلف… 2-أن تكون المنفعة مشروطة في أصل العقد، وأما إن تطوع بها المدين، فهي هدية مديان لدائنه.3-أن يكون الدين مؤجل بأجل معلوم.4-أن تكون المنفعة محددة بأجل معلوم.5-أن يكون الشيء المرهون مما يصح أن يكون. 6-أن يكون الشيء المرهون مما يصح النفع في كرائه كالأرض المأمونة الري. 7-أن يكون الدين غير طعام، هذه هي الشروط فإن توفرت جاز وإلافلا”.
ويضيف أنه “إذا نازع أحد الطرفين في الشرط الأول،… بان ادعى أحدهما أن الدين من سلف فإن نصت الوثيقة على شيء فالعمل عليه، وإلا فالقول قول مدعي السلف، ويجب الإثبات على أنه من غير سلف(1)، ولقد أشار ابن عاصم في تحفته إلى هذه المسألة بقوله:
وجاز في الرهن اشتراط المنفعة *** إلا في الأشجار فكل منعه
وهكذا إذن فلا يمكن إخضاع هذه الممارسة وفق الطريقة التي تتم بها عمليا لأحكام الرهن الحيازي، نظرا للمنع الصريح في إطار الفصل 870 من ق.ل.ع والمبني على عدم جواز تأسيس الانتفاع بالشيء محل الرهن متى كان العقد الأصلي مبنيا على عقد سلف خالص احترازا من الوقوع تحت طائلة القرض بفائدة، ويبقى قرار محكمة الاستئناف بمراكش قرار صائبا وكاشفا للحقيقة القانونية إلى أبعد الحدود.
الصورة الثانية: ازدواجية العقد:
وهي الصورة الشائعة، وبمقتضاها يبرم شخصان عقدان مستقلان عن بعضهما البعض، الأول يتعلق بالقرض ولا يشار فيه إلى الفائدة، وإنما يتضمن ما يفيد أنه منح علة وجه الخير والإحسان، والثاني يهم عقد كراء عقار معين غالبا ما تكون الوجيبة الكرائية المقابلة زهيدة مقارنة مع الأجرة العادية التي يمكن أن يكرى بها مثال المحل المكترى، بحيث يكون عقد الكراء –وبالتالي تواجد الدائن بالعقار- كضمان لأداء مبلغ الدين وهذا هو الأمر المسكوت عنه، وفي هذه الصورة، وإن كانت العملية في مجملها تتضمن حقيقة شبهة القرض بفائدة، والمتمثلة في استفادة المكتري (المقرض) من الفرق ين السومتين الحقيقية والمؤداة فعليا، فهو لا يتضمن أية مخالفة للقواعد العامة للاعتبارات التالية:
*ليس هناك أي اشتراط لا صريح ولا ضمني للفائدة في عقد القرض الذي ينشأ في إطار علاقة مستقلة عن عقد الكراء، وبالتالي لا يصح القول ببطلانه(1).
*لا يمكن الجزم باعتبار تفاهة أو عدم جدية الوجيبة الكرائية دليل على قيام القرض بالفائدة، مادام أن صورية وتفاهة الأجرة لا يؤدي إلا إلى بطلان عقد الكراء بوصفه كراء، ويصار إلى تكييف آخر للعقد كاعتباره عارية أو هبة حق انتفاع… ولا يطرح بتاتا احتمال القرض بالفائدة، وكما ذهب إلى ذلك المرحوم عبد الرزاق السنهوري فإنه “ما يشترط في الأجرة أن تكون معادلة للريع الحقيقي للشيء المؤجر أو مقاربة، فالأجرة بخسة، وهي التي يكون فيها غبن فاحش لا تمنع من صحة الإيجار، كما انه لا يجوز فسخ الإيجار للغبن أو للمطالبة بتكملة الأجرة “(2) وفي مثل هذا الوضع فإنه لا يبقى أمام المكري (المقترض) إلا المطالبة بمراجعة الوجيبة الكرائية إذا توفرت الشروط المنصوص عليها في الحالتين الواردتين بالفصل الثاني (وذلك بعد مرور ثلاثة أشهر من إبرام العقد) والخامس (بعد مرور ثلاث سنوات) من ظهير 25/12/1980 المنظم لكراء الأماكن المعدة للسكنى أو للاستعمال المهني، متى تعلق الأمر بمحل يخضع لهذا الظهير أو في إطار ظهير 1953 أو 24/05/1955 إذا تعلق الأمر بمحل تجاري.
*أن هذه الممارسة وإن كانت تنطوي على شبهة القرض بفائدة، فإنه يمكن اعتبارها من باب الحيل الشرعية التي لجأ إليها الفقهاء في تبرير العديد من المسائل والتي تتحقق بها مصالح العباد كالقارض مثلا أو بيع السلم.
ويبقى في الأخير قبول مثل هذه الممارسة في هذه الصورة، بمثابة تفعيل لدور هذه الأخيرة في الوفاء ببعض الاحتياجات الاجتماعية مادامت لا تخالف نصا آمرا.
من خلال التحليل أعلاه يتضح بأن مشروعية هذه الممارسة لا يمكن أن تأسس إلا من جهة مراعاتها للقواعد العامة، وليس باعتبارها عرفا مستقرا له أولوية التطبيق استقلالا عن تلك القواعد، وفي هذا الصدد فإننا لا نساير الموقف الفقهي الذي يؤكد على أن هذا الرهن هو مناسبة لإعمال العرف كمصدر أصلي القانون المغربي ولو مع مخالفته للتشريع(1) لأن هذا الإعمال يبقى رهينا بتحقق عدة شروط متعارف عليها فقها، والغائبة في هذه الممارسة، وذلك للاعتبارات التالية:
1-أن هذه الممارسة لا تستجيب لمقومات العرف المادية والمعنوية من ديمومة واستمرار واعتقاد راسخ لدى الناس بإلإلزامية، وهو الأمر الذي يحتاج إلى بحث، بالإضافة إلى أن غالبية المتعاقدين يستشعرون مخالفتهم للقانون فلا يتم التصريح بهذه الممارسة وإنما يلتجأ إليه بطرق ملتوية من خلال القواعد الصورية، وهو ما يتأكد من خلال موقف الأطراف عند التقاضي، حيث يسعى كل منهما إلى التمسك بجانب من هذه الممارسة، أي بعقد الكراء من طرف المكتري (المقرض)، أو بعقد القرض من قبل المكري (المقترض)، ولا تؤسس الدعوى على قيام عرف يجمع بين العقدين.
2-أنه يشترط في العرف عدم مخالفته للقانون وفق صريح الفصل 475 من ق.ل.ع الذي ينص على أنه:”لا يجوز للعرف والعادة أن يخالفا القانون إن كان صريحا“، وأي صراحة أكثر من تلك التي أوضحناها سابقا، فإعمال هذه الممارسة سيترتب عنه التنكر للنصوص القانونية الصريحة في ق.ل.ع وفي ظهير 2 يونيو 1915 وفي ظهير 25/12/1980، بل وحتى قواعد الفقه الإسلامي وفق ما حددناه بخصوص رهن المنفعة.
3-أنه سيستعصي على القضاء إسناد مشروعية هذه الممارسة إلى العرف، وإنما باعتبار استجابتها للقواعد العامة، فلا يمكن للقضاء أن يصل بتوجهه الحمائي أو أن تأخذه حماسة التطوير إلى حد غض الطرف عن قواعد قانونية آمرة، فحرية الفقه في تخريج الأفكار هي غير حرية القضاء في تسبيب الأحكام، فالمرتكزات التي يعتمد الفقه لتبرير توجه معين والمبنية على مصادر مختلفة، قد لا تصلح في كل الأحوال كتعليل قانوني للبت في مسألة معينة، لذلك فإن ما جاء في قرار محكمة الاستئناف بمراكش رقم 2838 في الملف عدد:4083/93 الصادر في 28 نونبر1994، والمعتمد عليه من قبل بعض الفقه للقول بأن هذه الممارسة تكتسي عرف مستقر، من أنه: “بمقارنة هذه الوثيقة (عقدة السلف) مع السومة الزهيدة المضمنة بعقد الكراء والتي لا تتعدى 200 درهم، فإن فيها دلالة على قيام الرهن المتعارف في هذه المدينة” ليس دليلا على مشروعية هذا الرهن بقدر ما هو تأكيد على وجود هذه الممارسة وشيوعها في تلك المدينة، بل وفي كل أنحاء المغرب، خاصة وأن التثبت من وجود العرف هو مسألة قانونية تخضع لرقابة المجلس الأعلى، وأن العبرة هي بالوصف القانوني الصحيح وليس بالتكييفالقضائي
4-أن تفعيل دور العرف لا يكون أبدا بإضفاء الشرعية على ما هو غير مشروع بنصوص قانونية واضحة، كما أن شيوع بعض الممارسات وانتشارها لا يعني بالضرورة مشروعيتها أو اكتسابها لصفة العرف، وإلا لكان قبول الشيك على سبيل الضمان أولى بهذه الميزة وأحق بها، بالإضافة إلى أن تبني مثل هذا التوجه الفقهي سيفسح المجال –تحت نفس التبريرات- أمام إدراج العديد من الممارسات الاحتيالية ضمن طائفة العرف، وهو قول لا يخلو من عبث.
وفي الأخير نؤكد على أن هذه الممارسة ما هي إلا نموذج للعديد من الممارسات التي تسير في نحو مخالف لما يقره التشريع، ودون أدنى رقابة من الجهات الإدارية المختصة، حفاظا على مصالح الأطراف الضعيفة الأولى بالحماية، وخاصة عندما تتخذ هذه الممارسة صورة نظام قانوني ذي منشأ أجنبي ويتم تطبيقه بصورة مغلوطة وبوسائل تمارس عنفا على إرادة الأطراف، عن طريق محاصرتهم في أماكن العمل أو في محلات قضاء العطل أو في الموانئ و المطارات… ودفعهم إلى التعاقد تحت تأثير مزايا موهومة، مما يوفر لبعض الشركات فرصا للاغتناء غير المشروع، فتضيع حقوق العديد من الأطراف بعلة أن العقد شريعة المتعاقدين وأن بنود العقد الواضحة تمنع من تأويله، فهذا هو التطبيق الحالي للممارسة السائدة حول تسويق أسابيع الإقامة والمعروفة ب”TIME-SHARE” والتي نؤثر تسميتها “بنظام الإقامة بالتناوب”، وسنحاول لاحقا تفصيل الحديث حول هذه الممارسة.
فعسانا بهذا التحليل البسيط أن نكون قد وفقنا لعرض هذه المسألة من أغلب جوانبها، واضعين بذلك تحت إمرة السادة الباحثين أرضية لتعميق النقاش حول هذا الموضوع تحقيقا لتصور صائب يفضي إلى عدالة حقيقية.
والحمد لله العلي الذي لا يحصى نعيمه.